قضايا الطفولة

لم يعد زواج الطفلات محل نقاش لدى أغلب العاقلين عبر العالم. فالضرر الصحي الجسدي والنفسي (ضمنا العاطفي) صار مؤكدا وثابتا كحقيقة مطلقة.



ولا ينقض هذه الحقيقة أن الأمر لم يكن كذلك قبل بضع قرون أو عقود. فالضرر الجسدي كان متحققا في كل وقت. إلا أن الضرر النفسي والعاطفي لم يكن ظاهرا نتيجة طبيعة المجتمع التي تغيرت اليوم جذريا من جميع أوجهها حتى في أشد البيئات انغلاقا وانفصالا عن التطور.

في #سورية جرى نقاش سابقا حول إن كان استمرار #زواج_الطفلات يشكل ظاهرة تستحق التوقف أم لا. وبالطبع تعتبر طفلة كل من لم تبلغ الثامنة عشرة من العمر حسب القانون. وهو العمر المتفق عليه عالميا بأنه الحد الأدنى للنضج النفسي والعاطفي إضافة إلى الجنسي (الجنسي الإنساني لا البيولوجي).

فرغم أن النسبة العظمى من المجتمع السوري خرجت من هذا الانتهاك لطفولة الإناث، إلا أن نسبة لا بأس بها ما تزال مستمرة به، خاصة في البيئات التي تتميز بالإنغلاق الديني الإسلامي تحديدا. حيث يستند هؤلاء إلى بعض المتوارثات الدينية في تبرير هذا الإنتهاك، متجاهلين أن ما يستندون إليه قد مضى عليه أكثر من ألف وأربعمئة عام!

نقاش آخر كان حاميا حول إن كانت هذه المشكلة تستند إلى الثغرة القانونية التي تسمح بهذا الزواج في القانون السوري (بادعاء الاستناد إلى الإسلام)، أو هي مستندة إلى الوعي الاجتماعي العام.

وهذا النقاش بالذات كان محورا في جميع القضايا التي تتعلق بثغرات المجتمع السوري، من الديموقراطية السياسية وحتى #جرائم_الشرف ! حتى بدا كأنه نقاش "بيزنطي" لا ينتهي ولا يصل إلى نتيجة!

في الواقع فإن التجربة السورية نفسها، إضافة إلى تجربة شعوب العالم جميعها، تبرهن بشكل واضح أن العلاقة متكاملة من جهة بين #القانون والوعي المجتمعي، بمعنى أن القانون وحده لن يكون كافيا، ونشر الوعي وحده لن يكون كافيا. بل يجب أن يعمل الإثنان معا، متضمنا نشر الوعي نشر المعرفة بالقانون وآثاره. وفي هذه الحالات يعني نشر العقوبات والآثار السلبية التي ستتركها هذه العقوبات على مرتكبي المخالفة. وهي الآثار التي تدفع الناس إلى التفكير مرارا إن لم يكن من الأفضل عدم مخالفة القانون بدلا من دفع هذا الثمن الباهظ.

مع ذلك فإن القانون يحظى ببعض الأولوية. فما دام الأهل قادرين على ارتكاب هذا الانتهاك بحق طفلتهم محميين بالقانون، ودون أي عقوبة من أي نوع، فإنهم لن يتورعوا عن ممارسته كلما ظنوا أن ذلك مناسبا. سواء ظنوه مناسبا لطفلتهم أو مناسبا لأوهامهم الدينية.

في سبعينيات القرن الماضي كان في قانون العقوبات السوري مادة تشبه المادة 548 الحالية والتي تشرعن الجريمة وتكافئ القتلة باسم "الشرف"! لكنها كانت تحمي القتلة في "الثأر"! حذفت المادة كليا من القانون السوري. وصار من الصعب جدا الخلاص من العقوبة أو حتى تخفيفها في حالة القتل "ثأرا"، وتنطح الإعلام والعديد من الجهات للعمل على نشر الوعي بهذا الأمر. فإذا بهذه الجريمة تتراجع إلى حدود تكاد تنقرض فيها. فقد صارت خسارة "القاتل" في السجن لوقت طويل مع كل التكاليف المالية والاجتماعية المترتبة على هذا السجن باهظة وتستحق التوقف!

أي أن القانون استطاع أن يحقق تغييرا اساسيا في المجتمع عندما لم يوضع على الرف، بل مورس بنزاهة وحزم مرفقا بحملة دعائية واسعة وكبيرة.

 للوهلة الأولى يبدو أن القوانين السورية المتعلقة بالزواج والطلاق، وهي جميعا دينية وطائفية تعمل على تمزيق المجتمع وتضمن بقاء خضوعه لمجموعة من الذكور يدعون تمثيل الله على الأرض (مسلمين ومسيحيين ودروزا ويهود)، يبدو أنها تقر بالاتفاق العالمي على عدم زواج الطفلات، إذ تنص هذه القوانين على أن سن "الأهلية" للزواج هو 18 سنة (17 للمرأة).

ففي قانون الأحوال الشخصية الإسلامي تنص المادة 18 بكل وضوح على "أنه إذا ادعى المراهق البلوغ بعد إكمال الخامسة عشر أو المراهقة بعد إكمالها الثالثة عشر وطلبا الزواج بإذن القاضي، إذا تبين له صدق دعواهما واحتمال جسميهما"!

وفي قانون الأحوال الشخصية الدرزي تنص المادة 3 منه على: "لأحد شيخي العقل أو قاضي المذهب أن يأذن بالزواج للمراهقة التيأكملت الخامسة عشرة من العمر ولم تكمل السابعة عشرة إذا ثبت لديه طبيا أن حالهايتحمل ذلك وأذن وليها"!

والأمر نفسه في الفقرة -أ- من المادة 13 من قانون الأحوال الشخصية للروم الأرثوذكس: "وعند الضرورة يجوز عقد الزواج بين طالبيه إذا تمتعا بالأهلية القانونية ولم يكن طالب الزواج دون السابعة عشرة من العمر وطالبة الزواج دون الخامسة عشرة مع مراعاة حال البنية والصحة وموافقة الولي وإذن راعي الأبرشية"!

وكذلك المادة 800 من قانون الأحوال الشخصية للكاثوليك: "لا يستطيع الرجل قبل إتمام السادسة عشرة من عمره، ولا المرأة قبل إتمام الرابعة عشرة، الاحتفال بالزواج بشكل صحيح"! (أي يستطيعان بمجرد بلوغ السادسة عشرة والرابعة عشرة على التوالي).
وفي القانون اليهودي سمحت المادة 23 زواج الرجل عند بلوغه الثالثة عشرة من عمره، والمرأة عند بلوغها الثانية عشرة والنصف مشترطا أن "تنبت عانتها ولو شعرتين"!

الأمر واضح وبسيط! فحتى محاولات البعض الالتفاف على الحقيقة بتسميات مراوغة مثل "قاصر" و"صغيرة" لا تستطيع إخفاء الحقيقة بأن جميع قوانين الأحوال الشخصية السورية تقر زواج الطفلات دون أي اعتبار لحقوق الطفل التي يدعي الجميع حرصه عليها!

وهذه النصوص هي جزء واحد من المشكلة. فجزء آخر لا يقل عنه أهمية هو غياب أن نوع من "العقوبات" على من يزوج الأطفال أو يسمح أو يعقد زواجهم! لا أولياء ولا قضاة! كما أنه ليس هناك أي إجراء تجاه الأطفال الذين يزوجون حتى لو بلغ عمر الطفلين المزوجين 10 سنوات فقط! وهذا الجانب بالغ الأهمية نظرا لأن ما يقع على الفاعلين هو الأساس في "الردع"، وليس فقط "السماح والمنع". فمادام لا يوجد أي إجراء أو عقوبة ضد منتهكي الطفولة، آباء كانوا أو رجال دين أو قضاة، ولا يوجد أي اجراء تجاه الطفلين أنفسهما (كمثل فصلهما وإجبارهما على العيش منفصلين في بيئة سليمة كمعهد مختص مثلا)، فإن الأهل الذين يمارسون هذا الانتهاك لن يتوقفوا عن ممارسته، خاصة أنه مدعوم بترهات روجها رجال الدين عن "زواج السلف" أو عن "الحماية من الانحراف"!

وكما قلنا في الجزء الأول: لا ينفع الوعي دون قانون. فدائما هناك من يخضع لتصورات جنسية أو دينية مريضة لا بد من "منعه" بقوة القانون من ممارسة هذا العدوان على الطفولة. كذلك فإن القانون دون نشر الوعي الصحيح (والمتضمن الوعي بالقانون نفسه) سيبقى قاصرا عن تحويل "المنع" إلى سلوك عادي و حضاري.

وبالتالي: فإن تغيير هذه القوانين جميعا بحيث يثبت سن الثامنة عشرة كسن أدنى للزواج دون أي استثناء، وإيقاع عقوبات صارمة على الأهل ورجال الدين والقضاة الذين يخالفون هذا الحد لأي سبب كان، وفصل أي طفلين يجري تزويجهما (مع إيجاد الآلية المناسبة لحمايتهما ورعايتهما حتى بلوغ الثامنة عشرة من العمر)، هو شرط لازم وأساسي لتغيير الوعي المجتمع.

وريما يكون تشديد العقوبة على رجال الدين الذين يشرعون أو يروجون لزواج الأطفال (من كافة الأديان والطوائف) هو أمر هام في مجتمعنا الذي يلعب فيه رجال الدين دورا هاما (للأسف هو دور تمزيقي وسلبي وتخريبي ومعاد للإنسان حتى الآن!) هو أمر يستحق التفكير به جديا. وليس في هذا الأمر وحده، بل في كل المسائل المتعلقة بحياة المجتمع والتي ظهرت آثارها الكارثية بوضوح في الأزمة التي يعاني منها بلدنا.

زواج الطفلات هو عدوان صريح على الإنسانية. فحاجة هؤلاء (ذكورا وإناثا) إلى النضوج الجسدي (وليس فقط البلوغ الجنسي) والنفسي والعاطفي، وحد أدنى من الوعي العام، بات مرهونا في هذا الزمن بعمر لا يقل عن 18 عاما. وهو أمر لم يعد يناقشه سوى الجهلة والذين يريدون تجهيل الناس ليسهل عليهم قيادتهم.


بسام القاضي
افتتاحية مرصد نساء سورية (2006/12/20)

0
0
0
s2smodern