افتتاحية المرصد

لم يعد غريبا على سورية أن تتكشف فجأة أذرع خفية لمن يريد أن يحرمنا من حقنا الأساسي، كمواطنين مواطنات في دولة حديثة، من نقاش القوانين التي ثبت أن البعض يريد لها أن تجرنا إلى مستنقعات العنف والتمييز بكافة أشكاله، ليس فقط ضد المرأة والطفل، بل أيضا بعضنا ضد بعض، إذ تلغي كل اعتبار للمواطنة، وتحل محله التصورات المريضة لأمراء الطوائف والأديان.

فكما حدث مع النسخة الأولى الطالبانية من مشروع قانون الأحوال الشخصية، حين عمم رئيس مجلس الوزراء تحذيرا بمنع الإعلام السوري من تناول المشروع، وفشل هذا التعميم لأن السوريين/ات هبوا ليدافعوا عن حياتهم ومستقبلهم، ها هي جهات أخرى (غامضة هذه المرة) تمارس سطوتها لتوقف حوارا كانت قد فتحته إذاعة "شام اف ام" حول النسخة الثانية من المشروع نفسه.

الزميل قصي عمامة، الذي اعتذر على الهواء عن استمرار النقاش، وقال: "بما أن المشروع ما يزال قيد الدراسة، ولم يعتمد بعد، لا نريد "التشويش" على العاملين في القطاع التشريعي"! وبالتالي ألغي الحوار الذي كان يفترض أن تبث يوم الخميس، 4/2/2010، حلقته الثالثة.

بالطبع لا نلوم الزميل قصي، ولا الزملاء والزميلات في "شام اف ام" على ما قالوه. مثلما لم نلم أيا من وسائل الإعلام السورية التي أحجمت، تحت التهديد بالويل، عن نقاش المشروع في نسخته الأولى. وإن كنا نأمل دائما أن يكونوا أكبر من تلك التهديدات التي يمكنهم أن يحولوها إلى مجرد كلام أجوف.
لكننا ندين أولئك الذين يسعون مرة تلو المرة إلى إغلاق أفواهنا عن ما يخص تفاصيل حياتنا! مرة بذريعة أننا "نشوش" القطاع التشريعي! ومرة بذريعة  أن النقاش يثير "الفتنة الطائفية".. بينما هم من يثيرون الفتنة فعلا بإقصاء عشرين مليونا عن نقاش مشروع قانون يراد له أن يكرس العنف والتمييز على كافة المستويات، وهو يخص، مرة أخرى، كل تفاصيل حياتهم/ن؟!

من هم هؤلاء العاملون في القطاع التشريعي الذين ينظمون لنا حياتنا اليوم في غفلة عنا؟ أليس بعضهم هم أنفسهم الذين كادوا أن يقروا قانونا يسمح لكل سوري أن يشكك بنسب كل سوري آخر؟ أليسوا أنفسهم من حاولوا أن يخضعوا كل رجل في سورية لتصوراتهم المريضة حول الإسلام والمسيحية، وحول الطوائف والمذاهب؟ أليسوا أنفسهم من أرادوا أن يدمروا الدولة الحديثة القائمة على المساواة في المواطنة، إلى إماراتهم الكريهة القائمة على أن فلان هو مسلم (حسب معاييرهم) وفلان هو مسيحي؟ فلان هو سني، وآخر هو درزي؟ وأليسوا هم من كادوا أن يشرعوا اغتصاب الطفلات في سن الثالثة عشرة؟ ويشرعوا استعباد النساء كما لم تستعبد في تاريخ هذه المنطقة من العالم؟

فكيف لنا أن نصمت اليوم ونحن لا نعرف ما الذي يقرر لنا؟ ولا ماذا يقرر؟

مشروع قانون الأحوال الشخصية ليس قضية "عاملين في القطاع التشريعي"، بل هو قضية كل طفل وامرأة ورجل في سورية. والأمي/ة معني به وبكيف يكون مثلما هو الطبيب/ة، والقاضي/ة مثلما هو البواب/ة، والمهندس/ة مثلما هو الخباز/ة.. كلنا معنيون به، ليس فقط حينما يصدر، فحينها سيكون من ضرب قد ضرب وانتهى الأمر.  بل من الآن، ومنذ اللحظة التي بات فيها مشروعا.

هل لم نعد نثق؟ نعم. نحن لم نعد نثق بأي مشروع قانون ينشأ وراء الأبواب السرية. السنوات الماضية كانت كفيلة بالتأكيد لنا، ولكل سورية وسوري، أن هناك من يلعب بمصيرنا من أجل أهداف ليست مشبوهة، بل صريحة وواضحة: تدمير كل ما أنجزه المجتمع السوري، والقوانين السورية، منذ خمسة عقود من الزمن وحتى اليوم! وإعادة الحياة، ولكن مشوهة هذه المرة، لقدري باشا الذي لم ير فرقا بين النساء والبهائم، ولم يرى فرقا بين الطفلة والزوجة! بل رآهم جميعا خدما للذكر كما تفترضه الغرائز الحيوانية فقط.

قانون الأحوال الشخصية هو شأن كل مواطن ومواطنة. ومنع النقاش العلني فيه هو انتهاك فظ وصريح لحق كل مواطن ومواطنة. بل إن من يتخذ مثل هذه القرارات يجب أن يحال فعلا إلى المحاكمة بتهمة تسهيل التآمر على أمن الدولة الداخلي. فأمن الدولة هو أمن كل مواطن/ة فيها. وحين يشرع قانون ينتهك أمن المواطنات، والطفلات، بأي ذرائع كانت، إنما هو يقوم بواحد من أخطر التعديات قاطبة على أمن الدولة. فأي دولة هذه التي ستعيش في الألفية الثانية وهي تشرع تمييزا فادحا وصريحا ضد ثلاثة أرباع سكانها (الأطفال والنساء)؟!

وصحيح أننا، في مرصد نساء سورية، قد تأخرنا كثيرا في معالجة النسخة الثانية من هذا المشروع، وهذا التأخر ليس إلا خطأ فادحا ارتكبناه ونجم عن الوضع المزري الذي تعيشه المنظمات والجهات والأشخاص العاملين في قضايا المرأة وحقوق الإنسان في سورية، إلا أننا سنتجاوز هذا الخطأ، وسنبدأ بالعمل على المشروع، وعلى تفنيد كل بندوه التي تتناقض مع المواطنة وحقوق الإنسان، وكذلك على إظهار ما يجب أن يكون عليه قانون الأسرة الوطني والعصري، القانون الوحيد الجدير بما حققه  الناس في سورية، رجالا ونساء.


بسام القاضي، افتتاحية نساء سورية، (من حقنا أن نناقش ما يشرع لنا.. وليس من حقكم أن تمنعونا!)

خاص: نساء سورية

0
0
0
s2smodern