افتتاحية المرصد

مضى أكثر من 8 أشهر منذ تلقت الهيئة السورية لشؤون الأسرة الضربة تلو الأخرى عقابا لها على وقوفها في صف المجتمع السوري بوجه الظلامية التي حاولت السيطرة على مقاليد الحياة في بلدنا تحت مسمى "قانون الأحوال الشخصية" بنسخته الأولى. وأهم تلك الضربات كانت فك عقود مجموعة من الخبراء، ومن ثم تسريح رئيستها أ. سيرا أستور. وعبر ذلك تفريغ الهيئة من كوادرها كافة، والتضييق المتتالي على كل من يريد أن يعمل في هذه الهيئة من أجل المجتمع.

تلا ذلك تعيين د. إنصاف الحمد، اختصاصية علم اجتماع، والعضوة أصلا في مجلس إدارة الهيئة السورية لشؤون الأسرة، رئيسة لها.

وخلال الأشهر الثمانية تلك انتظرنا أن تثبت الأعمال ما الذي سيكون. فرغم أن تغيير شخص لا يجب، في أية مؤسسة تحترم نفسها، أن يعني انقلابا داخليا يعيد كل شيء  إلى الصفر، لكننا نعرف واقعنا و"خصوصيتنا" التي تشخصن كل عمل، فلا يأتي مدير جديد، في أي مستوى كان، إلا ليقوم أولا بمسح آثار الذي سبقه!

اليوم مضت أكثر من شهور ثمانية على استلام د. الحمد مهامها.. فما الذي قدمته الهيئة خلالها؟
في الواقع لقد قدمت العرفان والجميل لمن حطمها ودمرها وأفرغها من مضمونها! الحكومة السورية التي عرفت أن الهيئة السورية لشؤون الأسرة قادرة فعلا، فيما إذا توفرت الإرادة فيها، لتكون رافعة للأسرة السورية فعلا، ولتكون بقعة مضيئة في سواد الثقافة الذكورية الحكومية.
فخلال ثمانية أشهر تمكنت الهيئة السورية من تحويل مقرها إلى مركز يعج بذوي وذوات المصالح! ممن "أملي" وجودهم/ن من هذا وذاك! ولم يعد فيها أحد ممن يحرص على الأسرة السورية إلا قلة نادرة محاصرة وتكاد تكون بلا عمل! بل إن هذه الهيئة أقدمت بطريقة غريبة على تخفيض رواتب الأشخاص العاملين/ات فيها على ذريعة "الأزمة المالية"! وخفضت المكافآت إلى مستوى صارت فيه أقل من أي مكان آخر في مؤسسات الحكومة! وهناك الكثير مما يهمس عن "غرائب وعجائب" تحدث اليوم في الهيئة.. لكننا للأسف لم نتمكن من التأكد منه.. وجميعه يصب في خانة واحدة: جعل الهيئة فارغة من الداخل سواء من الكفاءات، أو بمحاصرة من يريد أن يعمل ممن بقي فيها ماليا وعقديا!

إضافة إلى ذلك، تمكنت الهيئة خلال الفترة الماضية من إنجاز ترتيبات دفن مشروع "قانون حقوق الطفل" الذي اعترضت عليه الحكومة السورية، خاصة وزارتي الأوقاف والعدل اللتين تشكلان اليوم قلعة العنف والتمييز ضد المرأة السورية، وبالتالي ضد الأسرة السورية. فالمشروع المذكور لم يعد يناقشه أحد، على العكس مما صرحت د. الحمد إلى إحدى الصحف المحلية. ولم يعد هناك من يدافع عنه بصفته خطوة كانت ستنقل سورية حقا إلى القرن الواحد والعشرين في هذا المجال، وتحسن من صورتها العالمية في مجال حقوق الطفل.

وبعد ذلك، لم يعد أحد يبحث في "قانون أسرة عصري"! فالهيئة التي من لا معنى لوجودها أصلا ما لم تعمل من أجل تطوير الواقع القانوني للأسرة السورية، قررت، بإدارتها الجديدة، أن ما تريده الحكومة هو "الأفضل"! وبالطبع نعرف جميعا أنه "الأفضل"، لكن.. لمن؟!

واختفى كذلك، إلى غير رجعة ما دام الوضع على ما هو عليه، مشروع قانون صندوق النفقة والتكافل الاجتماعي! فالهيئة "ركعت" أمام جبروت ذكور بعمامات قرروا أن مصلحتهم تقتضي تشويه الدين وتزويره لتكون المطلقة عبدة لمشيئة الرجل معاقبة حتى بعد طلاقها!

ود. إنصاف الحمد، رئيسة الهيئة التي بات التساؤل عن مبرر وجودها وقد تخلت عن الأسرة السورية وتحولت إلى خادمة ومطيعة لسياسات الحكومة المعادية صراحة للأسرة، لم تجد شيئا تقوله عن الهيئة منذ "تعلمت الدرس"! فجميع ما سردته في حوارها مع جريدة الوطن السورية هو من "إنجازات" الهيئة قبل أن يتم تدميرها من الداخل!

بل إنها عبرت بوضوح عن "سياسة" الهيئة بتقديم "المشورة" للحكومة! فهي غير معنية بأن تصدر القرارات تلو القرارات ضد المرأة السورية، وبالتالي ضد الأسرة السورية! وفي "احسن الأحوال" يمكن أن تهمس بأذن الحكومة التي هي من طين بـ"مشورة" حول هذا القرار أو ذاك!

أيضا هي وجدت نفسها تعيد الاسطوانة المشروخة حول "القوانين والتشريعات بمجملها جيدة وملبية وتعكس ما ورد في الدستور خاصة فيما يتعلق بقوانين العمل والأجر، إلا أن التمييز الأكبر يحدث على صعيد التطبيق الاجتماعي"! وبالطبع لم تبرهن لنا إن كان "القتل باسم الشرف" هو تمييز عن طريق "التطبيق"! ولا إن كان الزواج الثاني والثالث والرابع هو كذلك! أو إن كان الطلاق التعسفي، والنفقة المثيرة للشفقة، وحرمان المرأة قانونيا من أطفالها، وحرمانها من أي علاقة بهم، وحرمانها من منح جنسيتها لأطفالها، وتشريع العنف والتمييز ضدها.. هو "سوء تطبيق"! وبالطبع، لا يمكن، حسب د. الحمد، أن تكون القرارات الاقتصادية القراقوشية التي تصدرها الحكومة السورية والتي تتلقى المرأة السورية أولا، والأسرة السورية ككل، نتائجها الكارثية مزيدا من الفقر، وإلغاء سريا وتدريجيا لمجانية التعليم.. إلا خللا في التطبيق!

ود. الحمد، في تصريحاتها تلك، لم تجد سوى المجتمع السوري لتلقي عليه مسؤولية "تخلفه"! فـ"الإرادة السياسية فيما يتعلق بتمكين المرأة متقدمة جداً على الوضع الإجتماعي، وأكبر مثال على ذلك أنه في السلطة التنفيذية في أعلى قمة الهرم يوجد نائبان للسيد الرئيس أحدهما امرأة، وفي الحكومة تولت منصب وزير منذ عقد السبعينيات، ولدينا نسبة جيدة فيما يتعلق بتمثيل المرأة في مجلس الشعب، في حين أنّ في مجالس البلديات نسبة متدنية لأن انتخاب المرأة في المجالس يتعلق بالنظرة التقليدية للمرأة، وليس بالقرار السياسي المتقدم على الوضعية الاجتماعية والاقتصادية."!

لم يخطر ببال السيدة الحمد التي أمضت سنوات في "مجلس إدارة الهيئة السورية لشؤون الأسرة" قبل أن تصير رئيسته، أن هذا الكلام هو إدانة صريحة وواضحة للهيئة نفسها. فإذا كانت "الإرادة السياسية" كذلك، وإذا كانت تلك الإرادة هي من "انشأ" الهيئة ودعمها وسهل سبل قيامها، فلماذا تقف الهيئة في صف المميزين ضد المرأة السورية؟ لماذا تقف، بصمتها، إلى صف القلة من مجتمعنا التي تؤيد العنف والتمييز؟! لماذا لا تتبنى تلك "الإرادة السياسية" بالمزيد من العمل العلني ضد كل قانون ومشروع قانون وقرار وسلوك "يخالف تلك الإرادة"؟! وبالعمل الجاد والدؤوب على فضح كل تمييز في القوانين والقرارات و الممارسات الحكومية التي تناقض "الإرادة السياسية" تلك؟!

د. الحمد رمت الكرة مرة أخرى في المكان الخطأ. فقد قالت: "فلابد من حدوث حراك مجتمعي ومؤسساتي لتطوير القوانين". فإذا لم يكن هذا قول حق يراد به باطل، لماذا تخلت الهيئة السورية نفسها عن مسؤولياتها في مواجهة قوانين وقرارات وسلوك الحكومة التمييزي ضد المرأة والأسرة؟! ولماذا تحارب الهيئة السورية كل المنظمات والجمعيات المدنية التي تعمل في هذا الإطار "كرمى عيون" من لقن الهيئة الدرس قبل قليل؟! ولماذا تحولت إلى ما يشبه "فرع مخابرات" في السرية المطلقة لكل ما يجري فيها؟! ولماذا لا تخرج من مكاتبها، حيث يجري القضاء على أية فعالية داخلها، إلى الشارع الحقيقي لترى مئات آلاف النساء، والرجال، الذين هم يعملون ليل نهار، دون انتظار الهيئة أو غيرها، من أجل مستقبل أفضل؟.. أم لعلها تريد انتظار أن يأتيها القرار من حيث أتى "الرضى"؟!


لكل هذا، وغيره الكثير مما نرجو أن لا يأتي وقت نتحدث في تفاصيله، بات علينا التساؤل فعلا إن لم تكن الخطوة الصحيحة هي إلغاء هذه المؤسسة التي تخصص لها "هديك الحسبة"، ما دامت تناقض قانون تأسيسها نفسه وتفرغه من معناه!

الهيئة السورية لشؤون الأسرة مرت بمنعطفات كثيرة، وأخطاء وعثرات، وأيضا أنجزت خلال سنوات عملها الماضية عملا هاما فعلا كان دائما رهن المتغيرات.. لكن يبدو أن هذا عصر قد انتهى. وحسم وضع الهيئة كشاهد أخرس..

إن دعوتنا اليوم لتعليق نعوة الهيئة تثير الكثير من القلق والألم لدينا قبل غيرنا. إذ لم تلقى الهيئة، منذ إنشائها، دعما مستمرا مثلما لاقته من "مرصد نساء سورية"، وعلى أرض الواقع عشرات أضعاف ما هو في الإعلام. ويعرف الكثيرون ذلك. فقد راهنا دائما على أن هذه الهيئة سوف تكون هي الرافعة الحقيقية، والأداة الرئيسية لطريق طويل باتجاه تخلص المجتمع السوري من العنف والتمييز المجتمعي، بشكل خاص ضد المرأة والطفل. وحاضنة أساسية لتطور الأسرة السورية لتمكنها من حمل مسؤولياتها في القرن الواحد والعشرين.

لكن، ما دام مسار الهيئة ومكانها قد تحدد على ما يبدو كدائرة حكومية أخرى، فربما من الأفضل أن تعلّق نعوة الهيئة بعد 8 سنوات تقريبا من إنشائها! وأن يحول ذلك المبنى الجميل المجهز جيدا إلى مأوى للنساء ضحايا العنف، أو حتى لجمعيات خيرية تقدم بعض المساعدات لعشرات آلاف النساء الواقعات تحت وطأة السياسة الاقتصادية للحكومة! بدلا من أن يبقى هكذا: لا في العير ولا في النفير!

*- للاطلاع على حوار "الوطن" مع د. إنصاف الحمد، يرجى النقر هنا...


افتتاحية مرصد نساء سورية، (هل حان وقت تعليق "نعوة" الهيئة السورية لشؤون الأسرة؟!)

خاص: مرصد نساء سورية

0
0
0
s2smodern