افتتاحية المرصد

مضت أيام طويلة قاسية ودرعا، برجالها ونسائها وأطفالها، محاصرة من قبل قوات عسكرية وأمنية حصارا شديدا تحت ذريعة محاربة الأصولية المسلحة التي قال النظام السوري أنها كانت على وشك أن تعلن "إمارة إسلامية" انطلاقا من أحد جوامع درعا.

وفي حشد التجييش والتحريض والكذب لم يعد من الممكن لنا، ولمئات الآلاف في سورية، أن يصدقوا إن كانت هذه الرواية حقيقية أم لا. فلا النظام قدم ما يثبتها (والاعترافات للبعض على التلفزيون لا تؤدي إلى هذا)، ولا غيره قدم ما يثبت كذبها (فروايات شهود العيان لم تعد تتمتع بالمصداقية الكاملة)..

إلا أن كونها حقيقية أم لا، ليس له أية أهمية في موضوعنا هذا، حيث وضع الأطفال والمدنيين العزل، والسلميين، بين فكي كماشة يتحمل مسؤوليتها التامة النظام، بصفته نظام دولة، هو بهذا المعنى المسؤول الوحيد عن حماية حياة هؤلاء (الأطفال والمدنيين/ات) العزل، فلا أحد ينتظر من "عصابات مسلحة"، أو "أصولية دينية" أن تهتم بأرواح الناس، فيما ينتظر الجميع أن تكون الدولة، دولتهم، مسؤولة كليا عن حمايتهم.

وإذا كان البعض ينافح عن هذا العنف بالخطر المترتب من هذه الأصوليات، وقد يكون هذا صحيحا، فإن معالجة ذلك لا تكون بالعقاب الجماعي، ولا بالحصار الذي امتد، حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، إلى أكثر من خمسة أيام، بات أطفال درعا ومدنيوها العزل على حافة الجوع، وحافة انتشار الأمراض بمختلف أنواعها..

وكانت جريدة "الوطن" السورية نقلت عن "مصدر مسؤول" (وكلنا يعرف ماذا يعني هذا في جريدة "الوطن") أن الحل الأمني الذي اتخذ بمواجهة هذه الأصوليات والعصابات يتمثل في "عملية جراحية دقيقة".
إلا أن واقع الحال لا يشير إلى "عملية جراحية دقيقة"، بل إلى عملية واسعة لا تميز بين الجزء المريض وغيره، ولا يميز بين عضو وآخر.
ولم يعد بالإمكان إطلاقا تجاهل حقيقة أن هذا الحصار هو حصار حقيقي، مهما كذبت ونفت محطات الإعلام السورية، ومهما ضخمت ونافقت محطات الإعلام غير السورية. فالحقيقة أن هذا الجزء من المعلومات، حول الحصار التام وفقدان المواد الغذائية والخبز وأحيانا المياه.. هو صحيح تماما.

لقد بات واضحا بما لا يقبل اللبس، بعد أكثر من شهر من العنف المتصاعد، أن الاستمرار بهذا العنف لا يؤدي إلى نتيجة مفيدة على الأرض داخل سورية، ويزيد من تصاعد إمكانية التدخل الأجنبي من خارج سورية أردنا ذلك أم لم نرده (ونحن نؤكد موقفنا برفضه على كل حال، باستثناء لجنة نزيهة من حقوق الإنسان تضم في عضويتها سوريين/ات، من داخل سورية، من خارج النظام مشهود لهم/ن بالنزاهة والحيادية)..
وإذ نقول "العنف المتصاعد" فإننا نعني بوضوح "الحل الأمني" من النظام، والتحريض والتجييش القذر من بعض أمراء الحرب ممن يسمون أنفسهم معارضة خارج سورية وهم ليسوا إلا مجرمين آخرين مقنعين. وهم، على كل حال، لا يشكلون إلا نسبة بسيطة جدا من السوريين/ات خارج سورية، معارضة وموالاة، الذين هم/ن حريصون/ات كليا على كل نقطة دم في سورية..
وبات من الواضح أن الحل الوحيد اليوم للخروج من المأزق الذي ينغلق علينا جميعا يوما إثر يوم، ويحصد المزيد من الضحايا من كافة الأعمار وكل الانتماءات الولائية (معارضة وموالاة للنظام، وخاصة من هم ليسوا هنا ولا هناك، بل يريدون الحرية والديمقراطية والأمن والاستقرار معا)، الحل الوحيد هو التوقف فورا عن اعتماد الحل الأمني من قبل النظام، والالتزام الفوري بوعوده التي أطلقها خلال الأسابيع الماضية، وخاصة بجعل القرارات الهامة التي اتخذت (خاصة رفع حالة الطوارئ وإلغاء محكمة أمن الدولة العليا)، قرارات حقيقية على الأرض، مما يشكل أساسا صالحا لإعادة ترميم الثقة من جهة، وخطوة إلى الوراء تساعدنا جميعا على تجنب السقوط في هاوية عنف منفلت من عقاله سوف يأكل الأخضر واليابس، وسيطول كثيرا جدا.
وهذه الإجراءات التي نتحدث عنها كنا قد قمنا بتوضيحها في "بيان حول الوضع في سورية"،   والذي تزداد الأصوات المؤمنة بأنه يشكل مخرجا حقيقيا من العنف الراهن، ومدخلا جيدا للبدء بترميم الثقة من جهة، والانطلاق نحو إصلاحات عميقة وجذرية من جهة أخرى. إلا أن الثغرة الأساسية في هذا الأمر هي في عدم إعلان النظام تبنيه لهذه الورقة- المخرج. فالكثير جدا من السوريين والسوريات يجدون فيها مخرجا يمكنهم الالتزام به، إلا أن الخوف من أن لا تكون الدولة السورية راغبة (وهي قادرة) على الالتزام به هو ما يجعلهم مترددين في الموافقة عليه. ولا يعيب هذه الدولة ولا ينتقص من قيمتها وهيبتها أن تعلن سلفا أن هذا مخرج مناسب، بأي شكل من الإعلان تراه ملائما، الأمر الذي سيجعل كل هؤلاء الناس يسارعون فورا إلى تأكيد تبنيهم لهذا البيان.

وبغض النظر عن هذا، فإن المسألة الأساس الآن هي توقف النظام السوري (وللتوضيح فإن كلمة "النظام" هي كلمة تقنية تعني الدولة والحكومة بكافة أجهزتهما وامتداداتهما، وليس كلمة "سياسية") عن اعتماد الحل الأمني الموسع والشامل. فإذا كانت رواياته صحيحة عن مثل هذه العصابات المسلحة (ولدينا ما يكفي لنؤكد أن هناك مثل هذه العصابات فعلا، إلا أنها لا تصل في حجمها وخطرها ودورها إلى المستوى الذي يعتمده النظام ليبرر العنف الممارس)، إذا كانت صحيحة، فإن على قوات الجيش والأمن أن تلجأ إلى الطرق المعروفة والمعتمدة عالميا في معالجة هذه المجموعات مباشرة دون تعميم ذلك ليشمل قرية أو مدينة أو منطقة كاملة.

وسبق أن قلنا مرارا وتكرارا أن "الروايات" لا تثبت مصداقيتها وصحتها بمجرد إخراج بعض الأشخاص على التلفاز ليقولوا كذا وكذا، ولا بإعلاء الصوت على هذه الفضائية أو تلك، بل بوسائل باتت معروفة للقاصي والداني، منها تحويل هؤلاء مباشرة إلى محكمة مدنية يمكن للناس أن تثق بنزاهتها وعدالتها. وخاصة بفتح الباب أمام الإعلام ليرى فعلا ما يحصل. فإذا كان فتح باب الإعلام مستحيلا الآن، على ما يبدو، فما الذي يمنع النظام من أن يصور حقا ما يجري في الشارع ببث مباشر ليظهر لكل العالم أن هذه المجموعات هي من يطلق النار، وهي من تسعى لفعل كذا وكذا؟ ما الذي يمنع القوات من أن تحمل معها كاميرا مثبتة على الدبابات أو العربات المسلحة لتصور الواقع؟

والنقطة الأخيرة التي يجب أن نشير إليها هنا، أن المحاسبة التي وعدنا بها منذ أسابيع ضد من ارتكب أو تسبب بارتكاب عنف ضد المدنيين وتصاعد الأحداث على هذا النحو الخطير، لا تبدو، حتى الآن، محاسبة حقيقية. ففيما أعلن عن إقالة البعض من مناصبهم وتحويلهم إلى المحاكمة، يؤكد الكثيرون (وليسوا من شهود عيان الفضائيات ولا من "المعارضة") حقيقة أن هؤلاء أقيلوا من مناصبهم ولكنهم يتمتعون بكل الميزات التي كانوا يتمتعون بها في مناصبهم، وخاصة لجهة أنهم أحرار طلقاء يجولون هنا وهناك، ولم يتم توقيفهم ولا التحقيق معهم ولا محاكمتهم! وهذا أمر آخر يهدم الثقة هدما مباشرا. فيما يمكن للالتزام الفعلي بتوقيف هؤلاء وتحويلهم فورا إلى المحاكمة المدنية العلنية، بل التي يدعى إليها الإعلام ليحضر جلساتها، أن يترك آثارا إيجابية مباشرة لدى الكثير من الناس. فمن أجرم بحق سورية كلها بإخراج عقده الوحشية المنحطة ضد الشعب السوري بأشكال مختلفة، لا يجب إطلاقا أن يتم توفير أية فرصة له ليكون حرا يجول ويصول في البلد الذي عمل على تخريبه!

إننا، في "مرصد نساء سورية"، نؤكد مجددا أن خيار العنف لن يؤدي بنا جميعا إلا إلى هاوية لا قرار لها لن تكون صورة ليبيا اليوم (التي حصدت أكثر من 12 الف قتيل، وأكثر من 50 ألف مصاب ومشوه)، إلا نزهة أمامها.
ولا تنفع اليوم أية حجج أو ذرائع، خاصة للنظام السوري، فبغض النظر عن الأصوات النشاز لبعض من يدعون أنهم معارضة، فإن مسؤولية النظام عن حماية كل قطرة دم سورية هي مسؤولية كاملة، ولا يبرر انتهاكها أي سبب مهما كان.

كما أننا نناشد كل محطات الإعلام السورية والعربية (اف ام في سورية، الدنيا، الفضائية السورية، الإخبارية السورية، العربية، الجزيرة، الحرة، بي بي سي، فرانس 24..) التوقف فورا عن الحشد والتجييش الذي تمارسه والذي يساهم مساهمة مباشرة في المزيد من العنف، ونحمل كل هذه القنوات المسؤولية التامة عن استمرار هذا العنف بصفتها شريكة في الدعوة والتحريض له، ليس عبر بثها معلومات تصلها وتتأكد إلى حد ما من صدقها، ولكن عبر لغة ولهجة قذرة تلغي العقل وتحول المعلومات إلى بيانات حرب.

لنعمل جميعا، يدا بيد، للرجوع خطوة عن حافة الهاوية التي نحن فيها الآن. لنفتح عقولنا قبل قلوبنا فنرى أن لدينا الخيارات المناسبة لنمضي قدما نحو الدولة المدنية الديمقراطية القائمة على المواطنة، دون أن ندفع ثمنها غاليا جدا.


افتتاحية مرصد نساء سورية، (ليفك الحصار عن درعا، لتخرج الكاميرات من علبها، وليحاسب المسؤولون علنا!)

خاص: مرصد نساء سورية

0
0
0
s2smodern