افتتاحية المرصد

لم يكتف الصراع المسلح في سورية، بين النظام السوري ومجموعات المسلحين المرتزقة، باستخدام الأطفال في كافة أوجه صراعهما على السلطة، سواء في المسيرات أو في المظاهرات، وخاصة باستخدامهم في "الإضرابات" الموجهة ضد النظام السورية، وفي بعض الأحيان استخدامهم في القتال الحقيقي (كل من هو دون 18 سنة هو طفل)، بل إن عموم أطفال سورية يعيشون اليوم مأساة "إعلامية" لن تنتهي آثارها حتى مع سنوات طويلة من العمل الدؤوب.

فالضخ الإعلامي الإجرامي بنشر صور ومقاطع فيديو للضحايا وأشلائها، بل حتى لعمليات "الذبح" والشنق.. والذي شاركت فيه جميع القنوات المعنية بالأزمة السورية، (وإن كانت محطات العربية والجزيرة والأورينت قد تفوقت في إجرامها إلى الحد الذي يجب فيه فعلا محاكمة مسؤوليها بصفتهم مسؤولين مسؤولية مباشرة عن هذه الآثار)، هذا الضخ لم يوفر، ولم يكن بالإمكان أن يوفر الأطفال السوريين الذين يعانون أصلا كل الآثار المترتبة على وجود بعضهم في قبل المناطق الساخنة، واضطرار الباقيين إلى التواصل المباشر مع الأحداث من خلال أحاديث الكبار.

فما هي هذه الآثار التي نتحدث عنها؟
هي كثيرة فعلا، لكننا سنمر سريعا هنا على بعض أهمها.

- قبول القتل:
حتى الكبار يتعودون على مناظر القتل والدم إذا استمرت أمامهم (وإن بشكل غير مباشر) لوقت طويل، بحيث لا يعود القتل بحد ذاته مشكلة في وعيهم المباشر، بعيدا عن زخرفات الكلام. ولا يعود للدم قدسيته، ولا يعود لسفكه قيمة سلبية مطلقة.
فكيف الأمر مع الصغار الذين لم يبنوا شخصياتهم المتكاملة بعد، ولا منظومتهم القيمية، ولا يمتلكون الآليات العقلية والنفسية التي ترفض أمرا ما لاعتبارات أخلاقية؟
وهذا "القبول" لا يكون أثره الحاضر هو الأثر الوحيد، بل إن آثاره المستقبلية، بعد أن يكبر الطفل ويتمكن من أن يكون فاعلا في الحياة، قد تكون أشد هولا وخطرا على نفسه والمجتمع. فالقاعدة الأساسية لقبول القتل وسفك الدم قد تكونت لديه، وانتهاك حرمة الحياة قد تكرس في وعيه ولا وعيه، وبالتالي فإن اعتبار هذا "الحل"، أي القتل، هو حل "ممكن ومقبول" سيكون أمرا عاديا. وهذا ما تثبته جميع الحروب الأهلية التي حدثت قبل ثورة الإعلام. إذ إن الأطفال الذين كانوا على تماس مباشر مع مناطق القتل العمومي صاروا الأكثر قبولا لاحتمال استخدامهم القتل كوسيلة لحل النزاعات. ومن المنطقي أن يكون الأمر أشد سوءا وشيوعا مع قيام "الإعلام" بمهمة فرض "التماس المباشر" على كل طفل مهما كان بعيدا جغرافيا عن مكان القتل المباشر.

- الكراهية:
ترتبط هذه الصور التي نتحدث عنها مباشرة بالكراهية. فالقنوات الإعلامية نفسها، والناس الذين يتفرجون عليها أمام أطفالهم، يستخدمون كل ما في جعبتهم للتعبير عن رفضهم للقتل الذي يعرض بأشد ألفاظ وتعابير الكراهية المتوافرة لديهم، والتي يعرفها الطفل المعني أكثر من غيره بحكم حساسيته الخاصة لكل تغير في انفعال أهله.
ولا يختلف في هذا أن يكون الأهل مع هذه الجهة أو تلك. ففي كل الحالات تستخدم أدوات الكراهية ضد الطرف الذي يتم تحميله مسؤولية القتل المعروض على الشاشات، أو الذي في محيط الطفل المعني.
وبما أن الكراهية هي شعور غير محدد الهدف أصلا، فإن انتشارها على هذا النحو يضع القاعدة الأساسية لقبولها في عقل ومنظومة أخلاق الطفل، فلا تعود مشكلة إيجاد هدف ما لهذا الشعور، بل إنه يجد الأهداف بكل سهولة في أبناء بلده الذين يصب الأهل "جام كراهيتهم" عليه.

- فقدان الثقة بالنماذج:
حقيقة أن الأهل، خاصة الأب والأم، هما النموذجان الأهم في نمو وتكون شعور الطفل بالحماية، تجعل من هذه الضخ المكثف للضحايا والأشلاء سببا مباشرة لتساؤل الطفل إن كان أهله قادرون حقا على حمايته. وهو تساؤل محق تماما. فالأهل هم الأهل. وإذا كان أهالي كل هؤلاء الأطفال غير قادرين على حمايتهم، فلماذا سيكون أهله قادرون على حمايته؟

- فقدان الثقة بالنماذج الاعتبارية:
تسعى كل المجتمعات إلى تكريس صورة من الاحترام والثقة العميقة بالجهات التي تعمل في مجال الحماية المدنية، بدءا من الإسعاف وكوادره، مرورا بالإطفاء، وليس انتهاء بأجهزة الشرطة المدنية. إلا أن ما نتحدث عنه يضرب مباشرة هذه الصورة، خاصة مع تركيز الوسائل المعنية على عدم قدرة هذه الجهات على فعل شيء، وأحيانا على اشتراكها في عمليات القتل بأشكال وتبريرات مختلفة.
وباختلال الثقة بهذه الجهات يفقد الطفل محورا أساسيا من محاور بناء شخصيته المجتمعية القابلة للآخر. فهذه الجهات، وإن بشكل غير مباشر، تشكل حسا عاليا بالأمان مع الآخر (الشارع، الملعب، المدرسة، الكبار الغرباء..).
ويزيد الطين بلة الاستهداف المباشر لسيارات الإسعاف، والمشافي، والمراكز الصحية.. وهي الأماكن التي تبذل جهود مهمة وضرورية أصلا لجعلها مقبولة من الطفل، فكيف سيكون الحال بعد استهدافها عمليا، وتعميم هذا الاستهداف إعلاميا؟

- الولاء للقوة بدلا من المواطنة:
يساهم هذا الضخ الإعلامي الاستثنائي لمناظر الضحايا بأبشع حالاتها في دفع الطفل إلى البحث عن "ملجأ" لم يعد "الوطن" يشكله. فالوطن، أي المجتمع وعلاقاته ومؤسساته، لا يبدو شريكا في القتل فحسب، بل هو أيضا عاجز عن حماية هؤلاء الضحايا (خاصة الأطفال منهم) الذين يتم عرضهم، وبالتالي فهو عاجز عن حمايته هو نفسه. هذا يعني أن أي مجال آخر يوحي له بالأمان سيكون هو المجال- الملجأ. وبما أن الحديث الطائفي اليوم مرتفع بصوت عال على نطاق واسع، ويرتبط مباشرة بـ"القوة"، فإن المسار التلقائي لعقل الطفل ونفسيته هو الالتجاء إلى هذا الملجأ الذي ربما لم يختبره، لكنه يشكل هالة مناسبة لوضع محل "الوطن" الغامض الذي يقتل مواطنيه.

تساهم مظاهر مختلفة أخرى في الوصول إلى هذه النتائج، منها ما بات شائعا على نطاق واسع من ممارسات تنتهك حقوق الأطفال في التعلم تحت شعارات مختلفة، سواء إخراج الأطفال من المدارس لإشراكهم في المسيرات المؤيدة، أو إجبارهم على عدم الذهاب إلى المدرسة بذريعة "الحرية". أو التمجيد المطلق لضحايا تم استخدامهم في الصراع المسلح بحجة أنهم "بالغين"، ثم يتم استغلالهم إعلاميا عندما يسقطون ضحايا السلاح على أنهم "أطفال".
بل إن هناك معلومات أكيدة عن استخدام الأطفال في بعض مناطق الصراع، حصريا من قبل المجموعات المسلحة وبعض المظاهرات الموالية لهم، كعناصر "استطلاع" متقدمة لا تثير الشك لدى "العدو" الذي هو الجيش وأجهزة النظام، وترصد تحركاته وتنقل المعلومات إلى المجرمين الكبار.

إضافة إلى ذلك، يعرف العاملون في الحقل النفسي جيدا سلة متكاملة من المشاكل النفسية (بعضها مؤقت، وبعضها ستكون له آثار طويلة الأمد) المترتبة على تعرض الأطفال لهذه الصدمات العنيفة عبر الإعلام، وعبر رد فعل المتفرجين الكبار.

ويؤكد عدد كبير من الأسر السورية، في كل مكان، على مظاهر متشابهة لدى جميع الأطفال باختلاف بيئاتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، من أهمهما الكوابيس التي يكونون فيها هم على علاقة مباشرة بقتل ما، سواء كانوا ضحايا لهذا القتل في الكابوس أو شركاء فيه أو متفرجين عليه. وكذلك ردود الفعل الخائفة والقلقة من سماع أي "زمور إسعاف"، ومسارعتهم إلى الالتجاء لأحد الأبوين خوفا من هذا "الزمور".

كذلك ازداد بشكل ملحوظ ارتكاز الأطفال على ألعاب الحرب والقتل كجزء أساسي من ألعابهم اليومية، خاصة في الشارع والمدرسة. وبات تداول أسماء الأسلحة الفردية والمتوسطة أمرا عاديا في مثل هذه الألعاب، مع تضمين نتائج استخدام هذه الأسلحة في الألعاب (من موت بعضهم التمثيلي، أو تهديم شيء ما).

ما ورد أعلاه لا يشكل إلا ملامح عامة لأزمة حقيقية تحتاج اليوم، رغم كل الظروف السيئة، إلى جهود كبيرة من اختصاصيين/ات بعيدين كل البعد عن التجيير السياسي الذي يمكن اتهامه بأنه المجرم الأول في صناعة هذه الآثار (أيا كانت رايته وشعاراته)، ومخلصين في البحث عن المظاهر الحقيقية لهذه المشكلة التي قد تكون دخلت في طور أزمة نظرا لشمولها أعدادا كبيرة جدا من الأطفال السوريين/ات.
ويشكل هذا البحث قاعدة رئيسية لعمل واسع النطاق يجب أن يكون على جدول كل الجهات المعنية، سواء كانت مدنية أو حكومية. قاعدة لا غنى عنها لعمل جاد ومؤثر مع الأطفال ضحايا هذا التجيير والاستخدام للأطفال، وضحايا هذا الإجرام الإعلامي.
إلا أن ضرورة هذا البحث لا تعني انتظاره ليبدأ العمل ميدانيا مع الأطفال المعنيين، بل يمكن العمل مباشرة دون انتظار هذا البحث، وهناك مبادرات مدنية فردية أو عبر مجموعات صغيرة عديدة قد بدأت العمل فعلا، وإن كان بعضها ما زال غارقا في التجيير السياسي بحيث أن القائمين عليها لم يستوعبوا بعد أن كل تجيير سياسي لهذه الصور، والآثار، يعني المزيد من تدمير الأطفال. لا يغير من ذلك تسمية هذا التجيير بالعمل من أجل "الحرية"، أو من أجل "الأمن"، أو من أجل أي هدف آخر.

الأطفال ليسوا مسؤولية مجتمعية فحسب، بل هم غدنا بكل ما في الكلمة من معنى. وسواء أعجبنا ذلك أم لا فهم من سيتحكمون بحياتنا غدا وبعد غد. وحين نساهم في تشويه منظومتهم العقلية والنفسية على هذا النحو، يجب أن نتوقع، علميا، مستقبلا سيئا إلى حد كاف لكي نراجع فيه ما نفعله اليوم.


افتتاحية مرصد نساء سورية، بسام القاضي، 26/2/2012، عندما ندمر أطفال اليوم، ندمر غدنا ومستقبلنا!

خاص، مرصد نساء سورية

0
0
0
s2smodern