جرائم الشرف

"ماذا لو كان الحب مباحا في مجتمعنا؟" سألتني زميلتي في العمل التي تصغرني في العمر ما يقارب العقدين من الزمن, وربما كانت قد تزوجت باكرا قبل أن تستطيع الاختيار كما تريد - هذا السؤال ثم تابعت قائلة: لا أريد جوابا سريعا, بل لا أريد جوابا بقدر ما أرغب بطرح هذا السؤال, كسؤال صادم, لأوسع ما يمكن من الناس ويكفيني أن يستفز فيهم رأيا ما في الجواب عليه.

مرت شهورا عديدة على هذا السؤال إلى أن استوقفتني مادة في مسودة مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد في سوريا والتي هي قيد التعديل والعمل عليها حاليا. كونها تبيح زواج المراهقة في سن 13, والمراهق في سن 15, ثم عدل السن في هذه المادة في النسخة المعدلة التالية لمسودة المشروع ليصير 15 عاما للمراهقة و17 عاما للمراهق. وتسنى لي أن سمعت رأيا لأحد المشرعين في مسودة هذا القانون, وهو رجل قانون بخلفية فقهية إسلامية متزمتة جدا, عندما اعتبر أن كل القوانين الوضعية قاصرة في النهاية أمام القانون الإلهي كما ورد في القرآن, حسب حديثه في برنامج حواري بعنوان " حياة وناس " بثته إذاعة مونتي كارلو الدولية حول هذا المشروع بتاريخ 2| 2 | 2010, وكان يبرر تلك المادة, غير الملزمة كما قال: كتلبية لاحتياجات بيئة المجتمع الزراعي الواسعة في سوريا!؟.

المفارقة المرة هنا هي أن الإسلاميين الذين يفاخرون بأن الإسلام الأول حرر البنت من عملية وأدها وهي حية في الجاهلية. هم في الغالب الأعظم منهم, من يطالب اليوم بوأد مشاعرها وميولها وأفكارها الخاصة , أي يقتلون شخصيتها المستقلة قبل أن تولد, ويشرعنون دورها الباكر جدا في الحياة, كأداة مملوكة للخدمة, وموضوع للمتعة, فقط. باسم القانون الإلهي إياه الذي يتحدثون عنه بفهمهم الخاص له, ويخنقون إمكانات وتطلعات الحياة الجديدة في المجتمع من خلال هذا الفهم. لأننا نعرف تماما مجمل الشروط الذكورية الضاغطة في مجتمع أبوي كالمجتمع السوري مثل كل المجتمعات العربية الأخرى, والتي تجبر المراهقة على الزواج المبكر بدون إرادتها واختيارها الحر تخلصا ليس من مصروفها فقط, وبالتالي الحصول على مهرها, بل أيضا من فضيحة مفترضة قادمة, لأن البنت المراهقة, بل والمرأة عموما في عرف هكذا مجتمع, هي مشروع فضيحة دائمة.

أذكر أني قرأت, بعد نكسة حزيران 1967, رأيا للشاعر نزار قباني في مجلة "مواقف" التي كانت تصدر في بيروت أوائل سبعينات القرن العشرين, يقول فيه ما معناه: أن هزيمة حزيران لم تكن هزيمة عسكرية فحسب, بل كانت أيضا هزيمة للجسد العربي المقموع والمكبوت. وهذا ما جعلني أتعرف, منذ ذلك الوقت, بعيدا عن التنظير الأيديولوجي أو الخطاب السياسي السائد, على أحد الأسباب البنيوية الخفية المسؤولة عن هزائمنا المتكررة وعجزنا الحضاري الدائم.

إن المعنى الذي تضمره هذه السطور هو الحب كظاهرة إنسانية معقدة بما تتضمنه من رغبة وهوى وعاطفة وميل نحو الجنس الأخر بمشاعر إنسانية دافئة, بشكل يفجر داخل المرء طاقات إبداعية دفينة. فالحب على هذا الأساس ظاهرة لها علاقة بمستوى ثقافة المجتمع ومستوى تطوره, وليست مجرد ميل غريزي بقصد المتع الحسية وإشباعها.

عن أصل ظاهرة الحب ودور العرب والإسلام فيها:
في ذكرى عيد الحب التي مرت هذا العام رأيت أنه من الأنسب أن أبدا تقليدا سنويا خاصا مع هذا العيد, وهو قراءة بعض نصوص, أو كتاب في الحب. لا سيما أن الجو العام السائد داخل بلداننا العربية وحولها مشبع بالتشنجات الضيقة التي تغذي باستمرار ثقافة الكراهية والقتل, والتهديد بالحروب. فبدأت هذا العام بقراءة كتاب ممتع وعميق الفكرة يعود تاريخه لثلاثينات القرن الماضي, للباحث الفرنسي "دينيس دي رجمون" بعنوان (الحب والغرب), إصدار وزارة الثقافة السورية, الطبعة الثانية, 2007, ترجمة: د. عمر شخاشيرو.

إلا إن الذي استوقفني في قراءة هذا الكتاب هو الإضافة الجديدة التي ارتأت مديرية التأليف والترجمة والنشر في وزارة الثقافة إضافتها كمقدمة للطبعة الثانية. وهي مقالة طويلة لنفس المؤلف بعنوان (الحب في الشرق والغرب) كانت قد نشرت سابقا في مجلة "حوار" التي كانت تصدر في بيروت, العدد | 2 | عام 1963, حسب تنويه المديرية الوارد في بداية الكتاب. تقوم فكرة المقالة على مقاربة موضوع الحب كظاهرة, بمعنى (العاطفة والهوى), ولدت لأول مرة في الغرب (جنوبي فرنسا) في القرن الثاني عشر. لكن بتأثير تياران مصدرهما منطقة الشرق الأدنى تحديدا, (انساب أحدهما من أسيا الصغرى وإيران والأخر من العالم العربي).

فالتيار الأول يقصد به الهرطقة المانوية نسبة إلى "ماني" والتي حاولت السمو ما أمكن بالنفس الإنسانية عن دنس الجسد, والتصعيد بها عن طريق الحب المثالي. وكانت هذه الهرطقة (ذات شأن عظيم في ايران وأسيا الصغرى ومرت بالبلقان وإيطاليا الشمالية وامتدت حتى شملت جنوبي فرنسا وتوطدت أركانها في البلاطات والقصور حيث الشعراء المتجولون ينشدون قصائدهم). فتكاثرت على إثر ذلك الهرطقات ذات الأصل المانوي في أنحاء أوروبا وكانت تتقاطع جميعها بنظرة جديدة للمرأة تقوم على الاحترام والتبجيل واعتبارها سيدة مثل الرجل السيد وكانت تجيز المغازلة التي ليس فيها إفراط وتطرف مع شيئ من اللذة. أما سر الانتشار السريع لهذه الظاهرة وهرطقاتها في أنحاء أوروبا فيعود لأمرين أساسيين: الأمر الأول هو مقاومة الكنيسة وكهنتها لظاهرة الحب الجديدة هذه, من خلال العوائق والموانع التي أقامتها بوجهها, رهبانية ذات طابع زهدي مغلفة بفكرة الحب الإلهي, حملات صليبية, محاكم تفتيش..إلخ. إلا أن مجمل هذه العوائق, بالعكس مما كان متوقعا منها, فجرت طاقات وإمكانات وإبداعات هذه الظاهرة (فالأهواء لا تعمق ولا تفجر طاقاتها إلا بما بمقدار ما تلقى من المقاومة).

أما الأمر الثاني فيعود إلى لغة شعرية جديدة ببيان بديع, وحدها كانت قادرة على التعبير عما كانت تتوق إليه النفس في أوروبا القرون الوسطى, ظهرت فجأة على يد الشعراء المتجولين " التروبادور " في جنوبي فرنسا نفس الفترة الزمنية. وكان مصدر هذه اللغة كما يقول الباحث: (الشعر العربي الذي ذاع في القرن الحادي عشر في الأندلس).

وهذا يقودنا إلى معرفة التيار الثاني الذي كان وراء ظاهرة الحب في الغرب, وتمثله بدعة مذهب صوفي ولد في العراق وكان من أهم ممثليه في القرن الثاني عشر , الحلاج والشيرازي والسهروردي, وتأثر به إبن عربي في الأندلس. وكلهم (لجؤوا إلى صيغ الشعر المنظوم في الحب الدنيوي للإعراب عن حبهم الإلهي, فعد هذا ضربا من البدع أفضى بالكثيرين منهم إلى الهلاك). أما خط سير هذه البدعة إلى أوروبا فكان بغداد, حلب, دمشق, (فالأندلس العربية مرورا بالشواطئ الجنوبية الشرقية من المتوسط). وهكذا ففي جنوبي فرنسا, حسب الباحث, (شوهد في القرن الثاني عشر لقاء تاريخي عجيب للغة حب وهرطقة دينية هما من أصل واحد. فإن الشعر العذري الذي ولد من لقاء هذين التيارين الروحيين القادمين من شاطئ البحر الأبيض المتوسط, منبع الحضارة, قد انحدرت منه جميع آدابنا الكتابية الأوروبية وجميع المفاهيم الشائعة التي تدور حول الحب, سواء أكان في الغناء أم في الكتابة أم في طرق العيش, وبقيت حتى أيامنا هذه). بل إن الباحث يقول أكثر من ذلك عندما يتوصل بعد البحث والتدقيق التاريخي أن هذا الحب العذري (لا وجود له لا في الماضي ولا في الحاضر, حتى ولا يمكن تصوره خارج الصعيد الذي حدده له القرآن والتوراة) لأن شعوب شرق أسيا, البراهمة والبوذيين, لها نظرتها الخاصة في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة كعلاقة جنسية (طبيعية اجتماعية خالية من أية نفحة رومانسية أو مثالية أو أية حرارة زهديه. إن الحب كما نفهمه منذ القرن الثاني عشر ليس له حتى اسم في لغاتهم: ففعل "أحب" في الصينية لا يحدد سوى العلاقات بين الأم وابنها). وهذا يعود حسب تحليله إلى أن ديانات تلك الشعوب تقول كما (جاء في أحد كتبهم " ليس إلا ذات واحدة لجميع الكائنات " أما الذات الفردية فصائرة إلى التلاشي والذوبان في المطلق الذي لا اسم له عندهم ولا شكل روح صاف). وبالتالي فإنها تخلو من فكرة " الملاك " كوسيط بين الإله والذات المؤمنة. لذلك فإن مشاعر الحب الدنيوي عندهم (لا تصلح أن تكون رموزا للمعارج الروحية ولا صورة منعكسة عنها). كما هو في الديانات الإبراهيمية. التي تنسج بين الذات الإنسانية والله, علاقة تقوم على الطاعة أو العصيان وخلاص الذات يكون حسب مستوى الجواب الذي تأخذه في هذه العلاقة. فتظهر الصوفية بين الطرفين كعلاقة حب دنيوية في تعبيرها الظاهري لكنها في حقيقة أمرها ترمز إلى سمو روحي يتطلع للاقتراب من الله بالحب فقط. ويكون الملاك وسيطا في علاقة الحب هذه. ومعروف كم صار شائعا اليوم استخدام كلمة " ملاك " بحمولات دلالية متنوعة وغنية, سواء في الأدبيات الدينية أم الدنيوية لاسيما في أدبيات ومراسلات الحب الدنيوي " يا ملاكي, أنت كالملاك" إلخ.

مفارقات العرب والمسلمين اليوم:
لذلك يستنتج الباحث أن (ما جاءنا به العرب من هذا القبيل قد أصبح جزءا متمما للغرب لا للشرق). لكنه يلاحظ أيضا, أن ظاهرة الحب هذه أصابت فوزا كبيرا في الغرب الأوروبي عموما منذ تلك الفترة إلا أن نارها في العالم العربي, خمدت بعد قرن أو قرنين من ذلك التاريخ.

 وهذا صحيح لأن سباتاً عميقاً أصاب العالم العربي منذ سقوط وتدمير بغداد كعاصمة سياسية وثقافية للإمبراطورية العربية الإسلامية في القرن الثالث عشر ميلادي 1258م, ما أحدث فراغا كبيرا ملئته بسرعة ثقافة الفقه الديني المتشدد بمدارسه المتعددة, التي تحرم اللقاء أو الاختلاط بين الجنسين خارج مؤسسة الزواج الشرعي, والتي كان يتم باستمرار استنساخها من جديد بصورة أكثر تشددا. وفي نفس الفترة كانت الأندلس العربية تعيش أخر ممالكها (بنو الأحمر) ويبدأ الضعف يدب فيها إلى أن خسر العرب أخر ممالكهم فيها عام1492م.

وهكذا فما عجز عنه رهبان الكنيسة القويمة المتشددة في أوروبا بمواجهة ظاهرة الحب خلال القرن الثاني عشر, نجح فيه الإسلام الفقهي المتشدد في العالم العربي فيما بعد مع بدء عصور الانحطاط الطويلة للمنطقة العربية. لذلك يمكننا استنتاج عدة مفارقات هنا:
 لعل أوضحها تلك المفارقة الكبيرة بين وأد ظاهرة الحب المستمر في مجتمعاتنا, وبين الغرب الذي صار الحب يغني نمط حياة شعوبه ويلونها بألوانه الزاهية, ثم يعود ليغتني بها ويتطور من جديد بحيث يأخذ أشكالا وأساليب وعلاقات جديدة ومتنوعة, ومدارس عديدة حتى اليوم, لها منظريها وفنانيها وعشاقها, التي تكرس الفرد كذات إنسانية لها الحق في إغناء مشاعرها وعواطفها الخاصة وبالتالي حياتها العامة, كما تريد, فالربيع الحقيقي لا تلونه زهرة واحدة بل عدد لا متناهي من الزهور والورود والألوان. الأمر الذي يصر فقهائنا وأتباعهم, عن قصور وضيق, على اعتباره انحلالا مجتمعيا في الغرب!؟.
أما الثانية فتتلخص بالمفارقة الكبيرة بين الإسلام التاريخي كوعاء حضاري كبير متعدد ومتنوع خلال العصور الوسطى, وبين الإسلام السياسي الجهادي التكفيري الحالي, أو الإسلام الفقهي المتزمت والضيق, الذي لا يستطيع أن يقرأ في القرآن ما قرأه هذا الباحث الفرنسي عن أصل ظاهرة الحب.
أما الثالثة فتكمن بالمفارقة الكبيرة والرهيبة بين هوية شخصيتنا التاريخية كعرب, في العصور الوسطى, وإشعاعاتها الحضارية المتقدمة جدا قياسا على عصرها آنذاك, وبين شخصيتنا المعاصرة بثقافتها وأخلاقها السائدتين بميولهما, الماقبل قروسطية في زمن يجمع العديد من المفكرين والباحثين بتسميته بزمن ما بعد الحداثة !؟.

لذلك ينتكس الحب عندنا ويتراجع باستمرار, ومعه تتراجع مجتمعاتنا العربية ويضعف دورها وحضورها العالميين, بعد أن صار أي مستوى للقاء بين الجنسين وفي أية مرحلة عمرية, خارج مؤسسة الزواج الشرعي, من المحرمات الكبرى. طبعا باستثناء هوامش زمنية قصيرة, أو كانتونات مكانية ضيقة, وبأفق محدود حدا. وفي الحالتين تكون نتيجة اللقاء الحديث بالغرب ومحاكاة له. وكل ذلك يكون في ظل طغيان قيم وأخلاق مجتمعية مشبعة بجشع التملك الفردي المتماهي مع غطرسة القوة الذكورية وأنانيتها المتطرفة, مما لا يترك مجالا حتى للحب والتسامح بأوسع معانيهما بين الناس في المجتمع, لتحل محلهما عصبية الانتماءات القبلية الأولى ومنازعاتها وحروبها المستمرة حتى اليوم. ومن خلال هذا النسيج المجتمعي الراهن تكتسب جرائم, ما يسمى بجرائم الشرف, المنتشرة بكثرة في مناطق عديدة من مجتمعاتنا العربية, شرعيتها المجتمعية وغطائها القانوني الذي يبيح لها العذر المخفف.

إنه وأد الحب المستمر في مجتمعاتنا العربية يا زميلتي العزيزة.


معاذ حسن، (ماذا لو كان الحب مباحا؟.. دفاعا عن ضحايا جرائم الشرف في مجتمعاتنا العربية)

خاص: نساء سورية

0
0
0
s2smodern