دراسات قانونية

قلنا في الجزء الأول من هذا المشروع الذي يعده وينشره "مرصد نساء سورية" ليكون أساسا لقانون أسرة وطني يترجم مفهوم المواطنة في الحقوق والواجبات الأسرية، أن فصل الإرث وحقوق الطفل عن القانون هو أمر أساسي. فالإرث هو حسابات تجارية بحتة تحتاج إلى قانون خاص بها. وحقوق الطفل باتت متطورة في المفاهيم والممارسة إلى حد لم يعد من المناسب وضعها في سلة واحدة مع تنظيم العلاقات بين الرجل والمرأة في الزواج.

وأن هذا القانون الجديد هو قانون لكل سورية وسوري، بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو العرق أو... فلا مواطنة مع تقسيم الناس في حياتهم اليومية إلى طوائف! ولا دولة ولا مجتمعا حقيقيا مع قانون لبعض الطوائف، وقانون لأخرى، وثالث لثالثة.. وهكذا. فالأسرة هي خلية المجتمع الأساسية في سورية، وحين تكون الخلية مرتبطة قانونا بطائفة ذكرها، فلا معنى للحديث عن مجتمع سوري، بل يجب الحديث عن "مجتمعات" طائفية تضمها حدود جغرافية واحدة!

 مشروع قانون الأسرة الوطني
 
في هذا الجزء من المشروع نتحدث عن تعريف الزواج الذي قال فيه القانون الساري: "المادة 1 - الزواج عقد بين رجل وامرأة تحل له شرعاً غايته إنشاء رابطة للحياة المشتركة والنسل".
لعل هذا التعريف كان مناسبا وجيدا على مدى القرن العشرين. وهو وضع أصلا عام 1953. أي قبل كل التطورات الواقية في الأسرة السورية، وقبل التطورات الكبيرة والعميقة بمفهوم الأسرة.

إلا أنه لم يعد صالحا لأسباب عدة، أهمها أنه بني على كلمة طائفية تمزق الوطن هي: "شرعا". قد يقول البعض أن "شرعا" هذه تعنيا الشرعية القانونية. لكن الحقيقة أنها ليست كذلك. لأن كل القانون يبرهن على أن "شرعا" تعني الاعتبارات التي يعتقد البعض أنها إسلامية.

فالزواج هو رابطة "قانونية" وليست دينية. أن يكون لهذه الرابطة طابع ديني عند هذه الأسرة أو لا، هذا الطابع الديني أو ذاك، فهذا هو أحد جوانب الترجمة الدقيقة لمعنى الحرية الدينية. بالتالي فإن اختيار الزوج والزوجة بعضهما لبعض على أسس دينية، أو ممارسة علاقتهما الزوجية ضمن إطار ديني، بما في ذلك إضفاء الشرعية الدينية على هذا الزواج، هو حق مصان لكل أسرة، بل لكل رجل وامرأة. إلا أن هذا يختلف كليا عن القانون الذي ينظم علاقات الناس بعضها ببعض في وطن، وليس في طائفة أو إمارة دينية.

أما أنها "تحل له شرعا" فهي لا تقدم ولا تؤخر. فالمحرمات في الزواج محرمات قبل الأديان بزمن طويل. وهي نفسها المحرمات في اليهودية والمسيحية والإسلام. ولم يشذ تاريخ البشرية عن هذه الحقيقة إلا في حالات نادرة. فمنع الزواج بين مستوى من الأقارب هو أحد أسس تنظيم المجتمع منذ بدأ يتكون كمجتمع. وبالتالي فإن الحالات التي يمنع فيه الزواج بسبب القرابة يجب أن تضمن تفصيلا في القانون، تحت بند خاص يوضح ذلك. وليس بإعطائها الطابع الديني.

ولا يخفى أن "تحل له شرعا" تتضمن أيضا، وربما أساسا، الاعتبارات الدينية المتعلقة ببطلان زواج المسلمة من غير المسلم. وهي إحدى المشاكل القانونية التي تمزق شباب وشابات سورية وتدفع بهم/ن إلى مهاوي حقيقية ليس الهروب من سورية لضمان زواجهما دون تدخل كهنوت الدين إلا وجها واحدا من المأساة.

وبعيدا عن النقاشات الفقهية الإسلامية حول جواز ذلك أم لا، فإن سورية هي دولة حديثة تقوم (أو يجب أن تقوم) على المواطنة وليس على اعتبارات دينية. فالاعتبارات الدينية هي اعتبارات شخصية. ونرى بأعيننا ماذا يفعل استبدال المواطنة بالاعتبارات الدينية في دول مختلفة.

بالتالي، فإن التعريف الذي يجب أن يوضع للزواج يجب أن يتضمن قانونيته. ولا يتضمن مصطلحات دينية.

والزواج هو علاقة اختيارية بكل تأكيد. لا يمكن لأحد طرفيها أن يجبر عليها سواء إجبار مادي مباشر، أو إجبار معنوي نفسي أو ديني. فمع كل إجبار يتحول الزواج إلى علاقة جنسية بحتة يتم فيها استغلال أحد الأطراف لطرف آخر. ومع كل إجبار يتحول أحد الطرفين (المرأة عادة) إلى حال العبودية الحقيقية سواء كان ذلك ظاهرا، أو مقنعا. ولا تتوقف آثار هذا الإجبار (المباشر أو المعنوي والديني) على المرأة فقط، بل إن ذلك يمتد إلى الأسرة ككل. إذ لم يعد أحد يستطيع أن يبني اليوم خلية على هذا القدر من التعقيد، تتحمل مسؤوليات تفوق تعقيدا وصعوبة مسؤوليات الدول، وهو مجبر على أن يكون في حالة تستمر أياما وشهورا وسنين.

إذا، فإن تضمين الحق المطلق بالاختيار يجب أن يكون شرطا في الزواج. بحيث تنفى أية إمكانية لعقد زواج لا يقوم بشكل دقيق على الطوعية والاختيار.

أما من جهة غاية الزواج، فإن ربط الزواج بـ"النسل" هو ربط غير سليم أيضا. فالنسل هو واحد فقط من أهداف الزواج عادة (عادة وليس دائما). بينما تشكل الحياة المشتركة، الجنسية خاصة، هي العنصر الرئيسي في الزواج. بالتالي فإن قصر التعريف على عنصره الرئيسي يخفف كثيرا من أعباء تعريف يثبت هدفا محددا قد يساعد على أن يعتبر غياب تحقيقه (ضمنا رغبة أحد الطرفين بعدم إنجاب أطفال) مبررا لإنهائه بسلطة التعريف نفسه.

ورغم تحديد سن زواج في مواد لاحقة في قانون الأحوال الشخصية الساري، فإن تضمين ذلك في التعريف هو أمر جيد ويثبت الأهمية المطلقة لسن الزواج. وهي الأهمية التي لم يبرهنها الواقع فحسب، بل كل التطور الجاري في الوظيفة الجنسية، والوظيفة المجتمعية (التربوية) للأسرة.

من جهة أخرى، فإن علنية العقد يجب أن تكون شرطا أساسيا مضمنا في التعريف نفسه. فلا زوج "سري". وإذا حدث فلا نتائج له قانونية من أي نوع. الزواج هو عقد علني بالضرورة. وبالتالي فإن أية حقوق أو واجبات يجب أن تترتب بشرط علنيته. هذا يعني أن العلنية يجب أن تضمن في التعريف نفسه.
وأيضا، تعاني الأسرة السورية من مشكلة حقيقية متمثلة في عقود الزواج غير المثبتة في المحكمة. ورغم التشديدات القضائية بهذا الخصوص إلا أنها لم تؤدي إلى نتيجة مرضية. من هنا فإن اشتراط الاعتراف بالزواج (أي ترتب الحقوق والواجبات على كل من الطرفين)، بتثبيته في المحكمة المعنية (محكمة الأسرة التي يجب أن يبدأ إنشاؤها في سورية)، يجب أن يكون في التعريف أيضا. دون أن يلغي ذلك إضافة المزيد من التفاصيل في هذا الشأن في مواد القانون الأخرى.

من كل ذلك، نقترح أن يكون تعريف الزواج في قانون الأسرة الوطني على النحو التالي:
{الزواج هو عقد قانوني علني بين رجل وامرأة راشدين يختاران بعضهما بعضها دون أي ضغط أو إجبار، ومثبت في محكمة الأسرة }

الخطبة:
يتحدث قانون الأحوال الشخصية الساري مطولا عن الخطبة، في مواد مختلفة. وفي الواقع فإن الخطبة ليست إلا إشعارا يخص الرجل والمرأة المعنيين يعلن رغبتهما بأن يكونا زوجين. من هنا فإن الخطبة ليست حال قانونية إطلاقا. ولا حال يترتب عليه أية نتائج لأنه لا يمكن وضع أية التزامات فيها. والتفصيل فيما يحدث في الخطبة، وما يحدث بعدها، هو نوع من السيطرة الدينية على علاقات الناس بعضهم ببعض. فمن خلال هذا المفهوم يسيطر رجال الدين (مسلمون ومسيحيون) على الفترة التي يجب أن تكون أساسية جدا في قراءة كل من طرفي الزواج للآخر، وتقدير مدى إمكانية عيشهما بعضهما مع بعض في حياة مشتركة واحدة.

ومفهوم الخطبة الذي يتناوله القانون هو مفهوم قديم لم يعد له أي معنى. فالناس اليوم تتقابل وتتبادل الأفكار والآراء بألف وسيلة ووسيلة. والشرط الذي كان في الماضي لقبول اللقاء بين الطرفين من قبل سلطة الأسرة والمجتمع، كانت الخطبة. وكجزء من مستلزمات هذا الشرط كانت الهدايا المختلفة. وهذا كله بات من الماضي.

وما يحدث في هذه الفترة، سواء كان هدايا متبادلة، أو أية اعتبارات أخرى، هو أمر يخص كل من الطرفين. ولا يخص الأهل بحال، فكيف يخص القانون؟ فالمرأة الراشدة هي امرأة حرة في البحث عن شريك حياتها والتقائه والتعرف عليه وبحث إمكانية الحياة المشتركة معه.. دون أن تضع نفسه موضع "سلعة" يجب أن يدفع الرجل "عربونا" مسبقا حتى يمكنه التعرف عليها جيدا!

من هنا، فإن الحديث عن الخطبة كلها، وتفاصيلها، يعد تدخلا سافرا في حياة الأشخاص الراغبين/ات بالتعارف تحضيرا للحياة المشتركة. كما يعد وسيلة ناجعة في السيطرة على هذه العلاقة من قبل الأهل، خاصة الذكور منهم.

إذا، فإن مفهوم الخطبة كله يجب أن لا يضمن في القانون الجديد، قانون الأسرة الوطني. وفي حال تضمينه فلا يجب أن يتعدى المفهوم التالي:
{الخطبة هي الإعلان عن نية الارتباط بعقد الزوجية، يختار الأشخاص بحرية وجودها من عدمه، ولا يترتب عليها أية نتائج. ولا ترتب التعاملات المالية الحادثة بسببها أية آُثار قانونية}.

*- سوف ننشر تباعا مقترحات ملموسة في كافة أوجه القانون المقترح..
لمتابعة المقترحات، يرجى متابعة الرابط التالي:
http://familylaw.nesasy.org/

الجزء الأول: اقتراحات من أجل قانون أسرة وطني سوري (1): إسم القانون، وفصل الطفل والإرث والوصية


- نساء سورية، (اقتراحات من أجل قانون أسرة وطني سوري (2): الزواج والخطبة)

خاص: مرصد نساء سورية

0
0
0
s2smodern