قضايا المرأة

انتهت حقبة ثمانينيات القرن الماضي إلى سيادة مفاهيم الليبرالية الجديدة في الولايات المتحدة والدول الأوربية الغربية، وأزيلت العقبات التي وقفت طويلاً في وجه انتقال الرساميل بين دولة وأخرى.. بين سوق مالي وآخر، وراحت الشركات العابرة للقارات توزع أنشطتها في مناطق العالم ما دام ذلك سيؤدي في النهاية إلى تخفيض تكاليفها الاستثمارية ونفقاتها الإنتاجية.

لقد أصبحت الأسواق العالمية غابة كبيرة.. والبقاء لمن يضغط تكاليف إنتاج السلع، وقد أدى ذلك إلى نشوء نظام تصنيع عالمي يرتكز على أرضية تصدير النشاط الصناعي الذي بدأته الشركات المتعددة الجنسية في المناطق ذات الأجور المنخفضة باستخدام التكنولوجيا المتقدمة التي تسمح بتجزئة عمليات الإنتاج، وبالتالي انتقال القدرة التصنيعية باتجاه لامركزية مواقع الإنتاج، واعتمدت هذه الشركات على الكثافة العمالية، وساعدها في ذلك تدني الأجور، وارتفاع مؤشرات البطالة في مجموعة كبيرة من الدول النامية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأقامت منصات خاصة لصناعة التجميع المعدة للتصدير مع التركيز على المنتجات ذات القيمة المضافة العالية.


وهكذا لن تجد في الأسواق اليوم سيارة ألمانية صرفة دون مخمدات إفريقية، وساعات ومكثفات إندونيسية ومقاعد مكسيكية، ولن تجد أيضاً جراراً أمريكياً دون علبة سرعة ماليزية، ولن تستطيع استخدام جهاز كهربائي ياباني دون أجزاء كورية أو صينية. وأحذية (نايكي) الأمريكية الشهيرة تصنعها أيادي النساء الماليزيات والإندونيسيات، أما سراويل الجينز التي ابتدعها الأمريكيون في بداية القرن الماضي لعمال المزارع ورعاة البقر في أمريكا، فتصنعها اليوم نساء الصين.

لقد انتشرت منذ ثمانينات القرن الماضي أكثر من  40 ألف شركة عابرة للقارات من كل الأحجام تعمل على ابتزاز المجتمعات والدول، انتبهوا... إذا رفعتم معدل الضريبة في فرنسا إلى 30% فإن إيطاليا تفرض 20%، وإذا كان أجر العامل في ألمانيا 50 ماركاً سنلجأ إلى التشيك، فهم يرضون بعشرة ماركات في اليوم.. أما في البيرو وموريشيوس وإندونيسيا فلن ندفع أكثر من مارك واحد..!

تقود الشركات المتعددة الجنسيات حالياً عمليات الاستثمار العالمي دون منازع، وتتوزع استثماراتها بين القارات، وتسيطر على ثلثي التجارة العالمية البالغة 8730 مليار دولار عام 2007، وتستخدم الشركات الصناعية العملاقة كل الوسائل كي تخرج السلع من مصانعها المنتشرة في البلدان النامية والفقيرة بأقل كلفة للحصول على الوضع التنافسي عالمياً، وهذا ما قاد العديد من الشركات إلى التركيز على العنصر الأضعف في القوة العاملة في تلك البلدان : إنها المرأة .. المرأة التي خسرت عملها في هذه الشركات في الوطن الأم في أوربا وأمريكا الشمالية بسبب نقل نشاط هذه الشركات إلى دول الجنوب.. والمرأة في دول الجنوب التي لم تربح عملاً محترماً بعد انتقال هذه الشركات إلى بلدانها الفقيرة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

تُظهر معظم الدراسات منذ عام 1985 أن النساء اللواتي يعملن في الشركات المتعددة الجنسيات، يواجهن مختلف التأثيرات السلبية، مثل عزلتهن في أعمالهن، وقلة فرص الترقي، وعدم الأمان الوظيفي، والتهديد بفقدان العمل، والأجور الأقل من تلك التي يتقاضاها الرجال، وغالباً ما تسود مستويات أجور الكفاف، وتلجأ بعض الشركات العاملة في إندونيسيا إلى إقامة مراكز إنتاجها في المناطق الريفية، لأنها يمكنها بذلك أن تدفع للعاملات الشابات اللواتي يجري استخدامهن أجوراً أقل بسبب إقامتهن مع عائلاتهن، أما الشركات العاملة في كولومبيا، فأقامت مجمعات صناعية ريفية، تستخدم فيها النساء بأجور أقل من أجر الكفاف لإنتاج الأحذية والملابس المعدة للتصدير، كذلك لجأت الشركات العاملة في المكسيك والولايات المتحدة وتايوان والصين والهند وبنغلادش إلى التعاقدات الفرعية (من الباطن) مع المصانع المحلية الصغيرة التي تعتمد على النساء للقيام بصناعة التجميع في منازلهن ، وبذلك تنخفض الأجور التي تدفعها هذه الشركات من جهة، وتتجنب الخضوع لبعض القوانين المتعلقة بالمزايا وشروط إنهاء التعاقد من جهة أخرى.

إن العاملات في مثل هذه الأعمال غالباً ما يكن متزوجات وربات بيوت، ومثل هذا العمل هو خيارهن الوحيد للجمع بين واجبات المنزل، والحصول على دخل لتحسين أوضاعهن المعيشية في ظل ارتفاع مؤشرات الفقر في هذه البلدان، والتي تصل إلى أكثر من 40% من عدد السكان.

أما تأثيرات الجنوسة – التمييز حسب الجنس والعرق والنوع والطبقة والثقافة - فتظهر تماماً لدى استعراض عمل النساء في الشركات المتعددة الجنسيات، ليس في البلدان النامية والفقيرة فحسب، بل أيضاً في البلدان الصناعية الكبرى، ففي كوريا الجنوبية وتايوان استمر التمييز في الأجور بين الرجال والنساء، وحتى بين النساء أنفسهن يجري التمييز بين عرق وآخر، فالعاملات من أصول صينية في كوريا يتقاضين أجوراً أقل من العاملات الكوريات، وفي ماليزيا تستخدم الشركات النساء من عرق (المالاي) وخاصة في عمليات التجميع، بينما تبحث النساء من العرق الصيني عن أعمال أقل قدراً، وفي ترينيداد تشغل العاملات السوداوات خطوط الإنتاج في صناعة النسيج، وصناعة تجميع المكونات، أما مراقبو تلك الخطوط، فهم من الرجال، وأغلبهم من العرق الأبيض، أما في لوس أنجلوس، فتتألف معظم القوة العاملة لصناعة الملابس من النساء اللاتي تشكل 91% منهن أقليات معظمها من أصول أمريكية لاتينية، وتبين بشكل عام أن النساء العاملات في هذه الشركات المتعددة الجنسيات يحصلن على أجور تقل بنسبة تتراوح بين 10 - 50 % من الأجور التي يحصل عليها الرجال لعمل متساوٍ، ويزداد الفارق كلما ابتعدنا عن مركز الشركة الأم في أمريكا وأوربا باتجاه مصانع الشركة في دول الجنوب، وإذا علمنا أن حذاء (نايكي) الشهير الذي يباع في الأسواق العالمية بملغ يعادل 70 دولاراً يكلف الشركة في مصانعها في إندونيسيا أربعة دولارات فقط، فأي أجر تتقاضاه العاملة الإندونيسية في يوم عملها في هذه الشركة الأمريكية..؟ نترك للقارئ الكريم تقدير ذلك .

أما إذا انتقلنا إلى اقتصاد الظل في تلك الدول الفقيرة، الذي تساهم فيه بعض الشركات العالمية الكبرى، فالصورة تزداد قتامة وبشاعة، إذ تدخل هنا تجارة الرقيق، والجنس، وتشغيل الأطفال، ومعسكرات العمل التي تضم مئات النساء المحرومات من أبسط التسهيلات كدورات المياه وساعات الراحة والخروج من المعسكر حتى بعد نهاية يوم العمل، أما الأجور فهي تقل بنسبة 40% عن مثيلاتها في الاقتصاد النظامي. (1)

المراجع
1 - كيلي فيرناندز وم. باتريسيا، الجنوسة وتطور الاقتصاد الدولي



بشار المنيّر
جريدة "النور" السورية (2017/4)

0
0
0
s2smodern