ربما لم يلق قانون في سورية (وهي جميعها تصدر بـ"مرسوم جمهوري") من التأييد المغلف بالسخرية قدر ما لاقى قرار حل الإتحاد العام النسائي اليوم، 2017/4/22! فقد اجتمع القاصي والداني، مؤيدو حقوق النساء مع رافضيها، مَن يدعي الثقافة ومَن لا يخفي الجهل.. الذين اصطفوا مع الدولة دفاعا عن سورية والذين اصطفوا مع الأخونجية تدميرا لسورية.. اجتمعوا على أنه "قرار صائب وحكيم"!
لا شك طبعا بأنه "قرار صائب وحكيم"! فمنذ متى كانت القيادة السورية تتخذ قرارات "غير صائبة" أو "غير حكيمة"؟! هذا مستحيل استحالة أن يجد المسلمون والمسيحيون في كتبهم "المقدسة" ما عفا عليه الزمن واهترأ!
لنترك استعراض تاريخ هذا الإتحاد، وحقيقة أنه أول "اتحاد نسائي" في عالم الذكور العرب. وأنه الرائد في تأمين حق النساء السوريات في التصويت للبرلمان، ومن ثم في عضويته..
وحقائق كثيرة عن ما قدمه خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي، من الصحة الإنجابية مرورا بالدورات المهنية للنساء وحتى المعركة الشهيرة لزعيمته وقتها، سعاد العبدالله، لتثبيت نص في الدستور السوري يقول بأن النساء والرجل متساوون في الحقوق والواجبات، معركة انقض عليها النظامان معا: نظام آلهة السماء ونظام آلهة الأرض، فوأدوها، وبقي دستورنا (بكل تعديلاته) حتى اليوم يفاخر بأن النساء "كائنات" ضعيفة تحتاج إلى "رعاية" الذكور! واستبدلت بخزعبلة سخيفة تقول بأن الدولة مسؤولة عن "تأمين الفرص" للنساء للمشاركة في "بناء المجتمع"! كما لو كن عبدات من عالم آخر، ولسن مواطنات لهن ما لغيرهن وعليهن ما على الجميع!
ولنترك ما قدمه الإتحاد من خدمة أساسية وجوهرية في تطوير حياة كل السوريين والسوريات في حملته الشهيرة الناجحة (بالتعاون مع جمعية تنظيم الأسرة) في نشر الوعي الصحي الإنجابي، قبل الحمل وأثناءه وبعده، وفي تنظيم النسل وتحديده، وفي تمكين الكثير من النساء من أن يواجهن الواقع الأسود الذي كن يعشن فيه في بيئة متخلفة شملت كل الأراضي السورية من أقصى قرية جنوبا إلى أقصاها شمالا وشرقا وغربا، وفي حماية الكثير الكثير من الطفلات من التجهيل المقصود عبر تسريبهن من المدارس لأنهن "بنات"، و..
ولننسى أيضا أنه شكل الإضاءة الأساسية في الإعلام السوري وقتها (طوال فترة السبعينيات) حول قضايا النساء (ضمن مفاهيم ذلك الزمن)، فيما كان أغلب كبار المثقفين مشغولون بـ"تحليل الهزيمة" (هزيمة 67)، أو تمجيد النصر (نصر 73)، متشدقين بحقوق للنساء لا يعرفون منها سوى "حق" واحد: الحق بأن "تنام" الصبايا معهم دون أن يترتب عليهم أي التزام أو مسؤولية!
لننسى كل ذلك..
ولنتساءل: لماذا تحولت هذه المنظمة الرائدة في المنطقة العربية، وفي سورية، والتي قدمت الكثير الكثير في تلك الأوقات، من منظمة اجتماعية مدنية فاعلة إلى "مرتع" لمستلقات حزب البعث، ونوعا من "فرع مخابرات" خاص في مجاله؟! ما الذي أودى به إلى هذا المصير حتى لم يبق أحد لم يشمت بحكم إعدامه الذي نفذ فورا؟!
الأمر بسيط، لكنه أيضا "أساسي".
فمنذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، ومع تثبيت النظام لسلطته، ومع انفجار الإرهاب الأخونجي، انفلتت "السلطة التنفيذية" من كل عقال، خاصة أجهزة المخابرات، وسيطرت على كل ما في البلد من أحزاب وجمعيات واتحادات ونقابات، كما سيطرت على كل أوجه الحياة وصغائرها قبل كبائرها.
في ذلك الوقت تقرر تحويل الإتحاد "الطوعي" إلى ذراع ضاربة لهذا النظام في مجال المرأة وحقوقها. فوضع قانونه الخاص الشهير الذي جعله جزءا من حزب البعث الحاكم، ونص صراحة على منحه الاحتكار المطلق لكل ما يتعلق بالمرأة في سورية، وتحولت "الإنتخابات" فيه إلى مهزلة أخرى مطابقة لمهازل انتخابات مجلس الشعب، أو مجالس النقابات، أو ما إلى ذلك.. أي إلى تعيين مخابراتي صرف بغلاف "انتخابات"!
ومنذ ذلك الوقت لم يعد "العمل" معيارا في الإتحاد، ولا "الإنجاز" حكما، ولا "الإبداع" مؤشرا.. بل فقط الولاء الأعمى و"الخدمات" التي يقدمها هذا "العبد" لأسياده في الحزب أو المخابرات (رغم صعوبة التمييز بين هذا وذاك حتى اليوم). ولم يعد الإتحاد معنيا بحال من الأحوال بقضايا المرأة السورية من أي مستوى وفي أي مجال، بل معني بأمرين:
الأول: دعم كل سياسات النظام (سواء المعلن عنها في القصر الجمهوري أو عبر مجلس الوزراء)، وتبرير كل ما يفعله في السياسة والاقتصاد والمجتمع، داخليا وخارجيا، ومنع أي انتقاد أو صوت ناقد لأي وجه من أوجه عمله..
الثاني: السيطرة على أية مبادرة أو اتجاه مجتمعي يتعلق بحقوق المواطنة للنساء، وإجهاضه إن لم يتمكن من منعه.
وبهذين الأمرين، بات الإتحاد مركز جذب واستقطاب لكل فاسدة متسلقة، كثيرات جدا بينهن أشد دفاعا عن الذكورة البهيمية من الذكور أنفسهم، وجميعهن تقريبا يسعين إلى أمر واحد: السلطة! سلطة في روضة، أو سلطة على رأس الاتحاد.. فكل منهما تؤدي إلى الأخرى، وكلتاهما من الطبيعة نفسها.
لم يعد الإتحاد "اتحادا"، بل صار عدوا شرسا لكل مبادرة مدنية تحاول العمل في مجال الأسرة السورية. حتى وصل الأمر إلى إجبار جمعيات قيد الترخيص على تغيير اسمها حتى لا يتضمن كلمة "النساء"، ووصل إلى محاربة الهيئة السورية الشؤون الأسرة (ذات الصفة الإستشارية أصلا في قانون تأسيسها) خوفا من أن تحل محله، بل وحتى محاربة السيدة الأولى نفسها، أسماء الأخرس، في وقت من أواسط العقد الماضي حين شعر بأن مبادراتها ورؤيتها تهدد سلطاته الفاسدة!
لم تعد النساء السوريات تصدق ما يقوله الإتحاد. لم تعد الزوجات الشابات يلجأن إليه ليساعدهن في مسألة حمل أو مرض، لم تعد العاطلات عن العمل يأملن أن يقدم لهن تدريبا مهنيا مفيدا حقا، لم تعد الأسرة السورية تهتم بادعاءاته عن تنظيم النسل أو تحديده، لم تعد المعنَّفة تنتظر منه مساعدة.. كما كان الحال عليه في السبعينيات!
بل صرن يتجنبن الإتحاد قدر الإمكان. فهو شر لا بد منه، كما هي السلطات الأخرى التي أفرغت من مضمونها المدني وتحولت إلى أذرع ضاربة للسلطة نفسها. ولأنه كذلك وجب "تجنبه" دون الاصطدام معه.
وهكذا تحول الإتحاد الرائد إلى "حظيرة" أخرى من حظائر النظام، فاسدة ومتعفنة، تثير القلق والخشية دون أن تقدم أي فاعلية على الأرض. وانفض الناس من حوله،
وحتى في العقد الماضي، حين شهد المجتمع السوري نشاطا مميزا في حقوق المواطنة للنساء، برز فيه "مرصد نساء سورية" الذي أطلق أهم حملاته "لا لقتل النساء بذريعة الشرف"، مارس الاتحاد النسائي دورا بالغ السلبية في إعاقة أي تحرك قانوني أو مؤسساتي لتغيير واقع التمييز ضد النساء السوريات. وتشهد مئات الندوات والاجتماعات التي شارك فيها على أن دوره الرئيسي كان في منع الوصول إلى أي نتيجة.. وحجته دائما: نحن نعمل على هذا المحور.. نحن نعمل على تلك التوصية! مستندين إلى أن القانون منحهم الحق المطلق باحتكار هذا المجال.
وجاءت الحرب، حرب ثورة الأخونج المنحطة ضد الشعب السوري وجيشه ودولته، وأثبت الإتحاد العام النسائي أنه فعلا لم يعد سوى وكرا من العث والعفن، فقد عجز عجزا مطلقا خلال سنوات الحرب الستة الماضية من تقديم أي شيء للنساء السوريات، ولا حتى "سلة غذائية"! كما عجز عجزا مطلقا عن الدفاع عن سورية وجيشها وشعبها ونسائها.. فهم لم يكلف نفسه عناء حتى إصدار بيان واحد "مهم"، ولا دعا إلى "مؤتمر" واحد له قيمة، ولا جمع بضع عشرات من النساء ليساهم في تخفيف حدة الإنقسام..
وهنا أو هناك: منذ ثمانينيات القرن الماضي لم يقدم اعتراضا واحدا يعتد به على النظام الحاكم وسياساته، في المجال الدستوري ولا القانوني ولا الاقتصادي ولا الاجتماعي..
وشكلت الدراسة اليتيمة التي أحدثت "صدمة" حين نشرها (2006) لدى البعض، والتي أثبتت مستوى العنف المتصاعد ضد النساء السوريات، مفاجأة بحق خارج كل سياق. سرعان خبت دون أي أثر..
رغم كل هذا الواقع المثبت، هل كان قرار حله بتلك الطريقة القراقوشية صائبا؟ أم هو ترجمة أخرى لعقلية النظام السوري التي لم ترى في المجتمع، ولا في حكومته وأذرعته نفسها سوى "أدوات" يملكها ويجري الاستغناء عنها دون شرح أو تبرير أو مسؤولية؟!
بالتأكيد: لم يكن قرارا صائبا. بل قرارا قراقوشيا بالمعنى الصحيح للصفة.
فالإتحاد، نفسه الذي وصفته أعلاه بأنه متعفن ومرتع للعث والفساد.. هو هيكلية كبيرة منتشرة على الأراضي السورية، جرى تدميرها بجرة قلم!
والإتحاد هو أيضا ذاكرة ورمز لطالما درّس في المدارس السورية، ولطالما فخرنا جميعا بحقيقة تأسيسه المبكر وما لعبه من أدوار سابقة، شكلت رافعة مهمة في مواجهة الكثيرين (وأنا منهم) لزعم الغرب الاستعماري ومنظماته حول تاريخ مواطنة النساء في سورية.. وقد تم مسح هذه الذاكرة بجرة قلم!
وهو، أولا وأخيرا، ليس ملكا للنظام الحاكم ولا لحزبه. حتى وإن كان قد "سطا" عليه في وقت مظلم سابق. فلا يحق له التصرف به تصرف المالك بملكيته!
بالطبع، لن نشير هنا إلى إثبات آخر لـ"قراقوشية" هذا المرسوم، تلك التي أحالت اختصاصه وعمله وموظفيه إلى "وزارة الشؤون الاجتماعية" التي عادت أصلا لتضيف إلى مهامها "العمل"، والتي أثبت تاريخها منذ ثلاثين سنة على الأقل بأنها، هي الأخرى، لم تكن سوى ذراع أخرى لضبط المجتمع المدني ومنع تطوره وتحرره، وبالتالي قمع إمكانياته على تطوير وتحرير المجتمع سواء من عسف السلطة التنفيذية (ضمنا المخابرات)، أو من عسف رجال الدين (مسلمين ومسيحيين ودورز).
فهذا تحصيل حاصل!
لكنها العقلية السائدة منذ دهر في هذا البلد. عقلية نظام لا يأخذ بالحسبان سوى ما يتهيأ له صبحا، أو يتهيأ له مساء!
فبدلا من تحرير الإتحاد من قانونه الاحتكاري السيء، ورفع وصاية حزب البعث عنه المنصوص عنها في قانونه نفسه، وتغيير نظامه الداخلي إلى نظام ديموقراطي حقيقي يجبر الإتحاد بكل من فيه على "نفض" أنفسهم نفضا لن يبقي سوى القلة القليلة الجادة والمسؤولة فيه، ويرمي في سلة القمامة من تبقى، ويضخ دماء جديدة مدنية يحتاجها مجتمعنا اليوم أمس الحاجة في الحرب ضد التحالف الأخونجي الوهابي، وضد التحالف الأصولي (المسمى زورا "معتدلا") مع السلطة السياسية،
وبدلا من إعادة استثمار كل الإمكانيات البشرية وغير البشرية في هذا الإتحاد في الإتجاه الصحيح، بعد تلك التغييرات المذكورة في الفقرة السابقة، ليتمكن من استعادة دوره كرائد في حركة المواطنة للنساء السوريات، رائد إلى جانب/ ومع آخرين (لا سيدا مخابراتيا احتكاريا)،
يجري "حذف" الإتحاد من قائمة "التوابع" للنظام السوري كما لو كان مادة أخرى من قائمة "عشاء" لدى الأسياد المتخمين!
نعم، السائدة منذ عقود. أليست هي العقلية نفسها التي أنشأت وزارات جديدة في ظلمة ليل حالك؟ وأليست هي نفسها التي حذفت تلك الوزارات في ليلة أخرى حمراء؟ وأليست هي التي تضع وزيرا يأتي من غامض علم "الجهات المختصة"؟ وأليست هي التي تزيل الوزير نفسه فلا يعلم إلا من "تلفون" مفاجئ وهو في مكتبه؟ أليست هي التي تصنع القوانين ضاربة عرض الحائط مصلحة الناس ما دامت تحقق مصالح "التحالف المقدس" الشيطاني بين سلطتي الأرض والسماء؟ وأليست..
صديق كتب ساخرا: "حل الاتحاد النسائي بيشبه إنو تموت حماتك النكدة بعد 30 سنة من إصابتها بمرض عُضال .. ومع ذلك بتتفاجأ بالوفاة"! هذا حقيقي. فقد مضى ثلاثون عاما على هذا "المرض العضال".. منذ اكتسح السرطان حياتنا في أوائل ثمانينيات القرن الماضي..
لكنه خطأ أيضا. فليست هي "المصابة" بالمرض العضال. بل هي حقنة ملوثة بالشلل التام حقنها بها ذلك السرطان نفسه. وكان يمكن أن تتناول "ترياقا" فعالا رغم مرور كل هذا الزمن، لولا أن الأسياد قرروا أن يطلقوا "رصاصة قراقوش"، لا رصاصة الرحمة!
إنها لخسارة كبيرة. خسارة للذاكرة السورية. خسارة للنساء السوريات. خسارة للمجتمع السوري، خسارة لمستقبل طفلاتنا وأطفالنا..
وإنه لنصر كبير. نصر مجاني أتى على طبق من ذهب لجميع أنواع وأشكال "الأصوليين"، عبدة الذكورية البهيمية بمختلف أسمائها.
*- خلال المسيرة المظلمة لانحدار هذا الإتحاد، لم يخل الواقع من نساء فيه حاولن جاهدات أن يغيرن هذا الواقع، لكنهن فشلن كما فشل كل من حاول مثل هذه المحاولة في نقابة المحامين، أو الأطباء، أو الإتحاد الرياضي العام، أو أي ذراع "مدنية" أخرى لأجهزة المخابرات.
**- تأسس الاتحاد عام 1967، ثم ألغي وتأسس مجددا عام 1975، ثم عدل قانون تأسيسه عام 1984 ليتحول إلى منظمة بعثية تعمل لتحقيق أهدافه، وتقوم على احتكار العمل في مجال محقوق النساء بشكل تام.
***- آخر "تحديث" على الموقع الالكتروني الرسمي للاتحاد بتاريخ 2014/11/2؟!
بسام القاضي
افتتاحية مرصد نساء سورية (2017/4/23)