وزارة الشؤون تتهم مجموعة بشرية كاملة بـ"التسول"!
ليس الحديث عن الأطفال المتسولين في شوارع سورية حديثاً جديداً. فهو قديم قدم انتباه المجتمع السوري إلى هذه الظاهرة التي تفاقمت بشدة أثناء الحرب، لأسباب مبررة، لكنها كانت موجودة بقوة قبلها، خاصة في المدن الكبيرة.
و"خاصة" هذه تشير بشدة إلى أحد الأسباب المهمة. فغياب الظاهرة عن القرى والبلدات الصغيرة، وتضخمها الهائل في المدن الكبيرة، يقول بوضوح أن المسؤولية هي مسؤولية السلطة، لا أحد آخر. ففي القرى والبلدات تكون سلطة المجتمع والأسرة قوية، أما خارجها فتغيب سلطة كلاههما لتحل محلها سلطة "الدولة".
لكن ذلك لا يعجب المسؤولين في سورية. فميساء ميداني، مديرة الخدمات الاجتماعية في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ألقت بالمسؤولية على عاتق وزارة الداخلية في لقاء لها مع "الوطن" السورية، فقالت أن وزارتها تتولى "فقط الشق الإنساني من الظاهرة"! دون أن تشرح ما هو هذا الشق بعد أن افتضحت مراراً حقائق سجون الأطفال التي تسمى "معاهد إصلاح، فيما هي سجون موبوءة بالفساد والقهر!
وبالطبع، ميداني تقصد بأن مسوؤلية "مكافحة" هذه الظاهرة تقع على وزارة الداخلية. وفي هذا القصد تقرير بأن الظاهرة هي "جنائية" أصلاً وفصلاً، وهو ما يعاكس الحقيقة التي يعرفها القاصي والداني من أن تسول الأطفال ليس سوى نتيجة لتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، هذا التدهور الذي لم يبدأ مع الأزمة في 2011، رغم أن الأزمة فاقمته بشدة.
بالطبع تقع على وزارة الداخلية مسؤولية كبيرة في مكافحة العصابات المنظمة التي تقوم بتشغيل الأطفال في التسول، لكن هذه المكافحة لا يتجاوز أفق نجاحها أفق نجاح الوزارة نفسها في مكافحة الإتجار بالمخدرات: القبض على المشغلين الصغار، فيما المشغلين الكبار، والتجارة نفسها، مزدهرة.
أما المسؤولية الأساسية فتقع على الحكومة برمتها، وضمناً وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ليس فقط في إصلاح سجونها قبل أن تعطيها صفة "معهد إصلاح" أو "معهد تأهيل" أو ما إلى ذلك من تسميات، بل أيضاً بالكثير من الخطوات الأولى على رأسها الدفع بقانون جمعيات مدني ديموقراطي ليحل محل قانون القراقوشات الحالي الذي يمنع فعلياً أي تطور في عمل المجتمع السوري في هذا المجال. وغير ذلك الكثير.
مسؤولية الحكومة أولاً هي في تأمين الظروف الاقتصادية الملائمة لهؤلاء الأطفال ولأهاليهم، ذلك التأمين الذين لن يكلفها أكثر من مصادرة 1 بالمئة من ثروات الذين نهبوا البلد إبان الحرب، وبعضهم مسؤولين في الحكومة، وجميعهم على علاقة "مصاهرة" مع الحكومة.
لكن ميداني وقعت في خطأ قاتل يستدعي فعلاً اعتذار الوزارة كلها إن كان للوزارة أي احساس بضمير. فقد نقلت "الوطن" عنها "ولفتت ميداني إلى وجود قبائل كاملة من الغجر يمتهنون التسول في شوارع دمشق"!
فمنذ متى يتحدث "مسؤول" سوري بصيغة "قبائل"؟ ومنذ متى تعتبر الحكومة السورية أن في سورية "قبائل" نتعامل معها لا مواطنين ومواطنات؟ ومنذ متى يقوم أحد في الحكومة باتهام مجموعة بشرية كاملة بارتكاب جريمة أو جنحة؟!
هذا القول مرفوض جملة وتفصيلاً. فالغجر، أو النور أو القرباط أو سمهم ما شئت، هم مواطنون سوريون يحملون الهوية السورية وتقع عليهم واجبات ولهم حقوق مطابقة تماماً لما لميداني ووزيرة الشؤون ورئيس الحكومة ورئيس البلاد أيضاً. ولا يحق لأحد من كان اتهامهم كمجموعة بشرية بأنهم "يمتهنون التسول في شوارع دمشق"!
وحتى إن كان هناك عدد من أسر السوريين الرحّل يمتهن التسول، أو يدفع أطفاله للتسول، فإن مسؤولية وزارة الشؤون، وميداني بصفتها مديرة مسؤولة، البحث عن الأسباب الحقيقية في فشل عملية "الدمج" التي فرضها بالقوة النظام منذ عقود تجاه الرحل جميعاً، غجراً وبدواً وغيرهم.
والمدهش أن "الحلول" في عقل الوزارة ما زال في نطاق "الغرامات"! وليس في إقرار قانون لحماية الطفل من جميع أشكال الاستغلال الأسري وغيره، قانون يشدد العقوبات على من يفعل ذلك، كما يجب أن يشدد العقوبات على الجهات المسؤولة التي تسمح بتتحول مراكز التأهيل إلى "مراكز فساد ونهب" كما هي حال المراكز التابعة للوزارة.
فرفع الغرامة لا يعني شيئاً لواحد من أرباب الإتجار بالبشر، والسجن لوقت قصير في سجون النجوم الخمسة التي تحتضن الأثرياء وزعماء المافيات حين الضرورة لا تعني له شيئاً. ما قد يعني له وجود عقوبة توقفه نهائياً عن إمكانية ممارسة نشاطه، وتجعل الآخرين من أمثاله يفكرون مرات قبل الإقدام على فعل يعرفون أنه سيكلفهم أكثر بكثير مما سيجني لهم.
بسام القاضي، مرصد نساء سورية، 2018/11/12