لم يكن مفاجئاً من كلي الرجلين الغنيين عن التعريف أن يقفا موقفاً واحداً يدين "جرائم الشرف"، وإن من أرضيتين مختلفتين: إحداهما قانونية- اجتماعية والأخرى دينية. فالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي سبق له أن أدانها في وقت مبكر جداً، وقبل أن يبدأ الحوار العام حولها الذي أطلقه مرصدنا، مرصد نساء سورية في ايلول 2005، في لقاء صحفي معه أجرته الزميلة فريال زهرة لجريدة تشرين السورية. ود. عبود السراج، عميد كلية الحقوق سابقاً، والأستاذ في الكلية، والمحامي ذو الباع الطويل.
جاء ذلك في ندوة عقدتها "الجمعية الوطنية للتوعية الاجتماعية"، على مدرج جامعة دمشق، مساء يوم الثلاثاء 3/4/2007، وضمت حشداً غفيراً من المواطنين والموطنات، الشباب خاصة.
وبعد مقدمة من أحد أعضاء مجلس إدارة الجمعية، بدا من خلالها أنه يعترض جملة وتفصيلاً على أولئك الذين "يضخمون" المسألة لأغراض ما! وواضعاً "القول الفصل" بين يدي الرجلين المرموقين، ابتدأ د. البوطي كلمته بالتأكيد على أن ما يقوله ليس رأيه (أي ليس رأي د. البوطي) بل هو "رأي الدين"!..
قد يكون من "البراغماتية" أن لا نتوقف عند هذه الجملة. بل أن نتجاوزها نحو تأكيد د. البوطي القاطع بموقفه المضاد لـ"جرائم الشرف". إلا أننا سنتوقف. لأن المشكلة أبعد حقيقة من "قول". إنها مشكلة مرجعية. فحين يضع رجل دين، من كان، رأيه على أنه "رأي الدين" يسد المنافذ، قولاً واحداً، على أي نقاش أو جدال في الأمر. وهو ما نعترض عليه كلية. ألم يكن هذا "الإغلاق" هو ما قضى على فورة الفكر في القرون الأولى الإسلامية؟ وألم يكن هو ذاته ما قضى على الفكر في القرون الوسطى الظلامية التي ما زالت استهشاداً أساسياً للجميع على ما يمكن لحجب العقل أن يفعله؟! وأليس هو ما أودى بلادنا، بضمن بلدان أخرى، إلى حالة مزرية بعد قرون طويلة من الاستعمار العثماني الذي منع أي نقاش أو تشكيك أو مناقشة فيما يقوله "فقهاؤه"؟! وأليس واقع تاريخ الأديان جميعاً يقول أن ما يسمى برأي الدين، ليس إلا رأياً لرجل يعتقد أن ما يقوله مطابق لما هو عليه الدين. وإذا كان هذا مفهوم في عصور مضت، فهو غير مفهوم، وغير مناسب في زمن بات فيه القادرون على قول المطلقات قلة، وأقل منهم بكثير الواثقون من أن ما يسمونه كذلك لن يجد من يدحضه. والواقع أن نسبة الرأي على أنه "رأي الدين" يدفع مباشرة لتساؤلات ليست سهلة: فما هو الذي قاله رجال دين مسلمون آخرون اختلفوا فيه مع هذا الرأي، وهم ما هم عليه من اعتبار؟! هل هم خارجون عن الدين، أو عليه؟ لا أعتقد، وإن للحظة، أن د. البوطي يعتقد ذلك، أو يقوله.
فلنقل إذاً أن ما قاله د. البوطي، وما قاله رجال الدين الآخرين، ليس إلا اجتهاداً في فهم وتفسير الدين، وهذا لا ينتقص قيد إنملة من رأي أحد، ولا من قيمته، إن لم يعطه المزيد من قوة الرأي والاحترام.
بعد ذلك أكد د. البوطي، بكلمات واضحة أن لا فرق بين الرجل والمرأة في مسألة "الشرف" من كافة نواحيها. وهذا أمر مهم مبدئياً. ففي المنفذ الشرعي الوحيد الذي تركه لما يسمى بـ"جرائم الشرف"، وهو منفذ ضيق للغاية، أكد مرات على أن الأمر ينطبق على الرجل كما ينطبق، تماماً، على المرأة. وهذا المنفذ هو ما عرف باسم "الصيال". أي أن يدخل المرء (رجلاً كان أم امرأة) بيته فيرى شريكاً جنسياً آخر مع شريكه، في بيته، ثم يقوم لحظتها بفعل القتل. فإن تأخر قليلاً، أو تصرف أي تصرف قبل ذلك، ذهب عنه التبرير.
بالتأكيد، لا نوافق د. البوطي على ترك هذه النافذة. فهي ترك "لغضبات النفس" على عواهنها في هذا الأمر، هو فتح غير مباشر للقتل. فما قاله عن الصائل لا يشير بحال من الأحوال إلى تفاصيل الوضع المعني أو يقيدها. لا يؤكد أن يكون هناك فعل جنسي كامل مرئي. ولا يرسم حداً لذلك. فهل، يا ترى، إذا دخل فجأة فرآهما في وضع "ريبة"، كما ترى الفقرة الثانية من المادة /548/ من قانون العقوبات السوري، وقتل الطرف الآخر، أو الطرفين، يكون مشمولاً بالصيال؟ وهل سنجد إذاً من سيتبرع لنا بتحديد ما الذي يعنيه وضع الريبة هذا؟ هل هو مجرد أن يكون ذكر في غرفة واحدة مع امرأة، كما يرى الكثيرون في مجتمعاتنا؟ هل هو أن يراهما على "كنبة" واحدة؟ أم أن يراهما عاريين ويمارسان الجنس، ويكون داخل فيها "كالميل في المكحلة" كما يرى آخرون؟! ثم، وهي نقطة أشار لها د. البوطي في حديثه عن "الصيال"، لكنها لم تأخذ إلا مساحة صغيرة من خارج المحاضرة، أي من الأجوبة على الأسئلة التي اشترط أن تكون مكتوبة: ماذا لو كانت المرأة في هذه الحالة نتيجة إكراه؟ سواء كان إكراه عضلي مباشر (اغتصاب بالمعنى المتعارف عليه)، أو نتيجة إكراه بوسائل أخرى مختلفة (كالابتزاز مثلا..)؟! في توضيحه اللاحق لمفهوم "الصيال" قال د. البوطي أن قتل الرجل للمرأة في هذه الحالة "لا يجوز"، فهو لا يعرف إن كانت تفعل ذلك راضية أم مكرهة. لكن كلمة "لا يجوز" كلمة مخففة جداً قياساً بالكلمات الجازمة التي استخدمت في المحاضرة، أو التي تستخدم عادة في الخطاب الديني.
د. البوطي لم يتردد في القول أن الجرائم المرتكبة باسم "الشرف" بعيدة كلياً عن مفهوم "الصيال" هذا. بل هي جرائم ترتكب بعد الفعل بزمن. ويخطط ويرسم لارتكابها. وهذه، وفق رأي البوطي، لا سبيل لتخفيف عقوبتها في الشريعة الإسلامية. "عقوبتها قاضية راسخة". ولم يتردد في القول: "موقفي معروف: لا يجوز أن يزهق والد حياة ابنته لأنها ارتكبت الفاحشة. والعقاب متساو للرجل والمرأة. والتائب كمن لا ذنب له". واستغرب أن الشاب الفاعل دائماً ما ينجو بينما تقع الفتاة ضحية القتل!
"أنا مع تشديد العقوبة"، قال د. البوطي بلا مواربة. لكنه أقسم ثلاث مرات خلال المحاضرة أن ذلك لن يحل المشكلة. فالمشكلة متعلقة، برأيه، بكل ما يثير "المتعة الخلفية" و"المتعة الجنسية الشاردة" وفق تعبيره، في الواقع الراهن. أي في الاختلاط الشائن والعمل الكيفي الذي تمارسه وسائل الإعلام وعدم وجود روادع قانونية كافية للفعل ذاته: العلاقة الجنسية بين رجل وامرأة. مشيراً إلى المواد القانونية في قانون العقوبات السوري التي تعالج موضوع "الزنا"، مؤكداً أنها مخففة من جهة، وهي لا تعالج المشكلة الأساس لأنها تفترض غياب الجرم في حالة التراضي. وغير ذلك الكثير.. مؤكداً أن العقوبة هي من حق القاضي حصراً، وأن العقوبات صارمة، وفق الشريعة برأيه، فيما يخص من قتل زوجته أو ابنته.
إذا، مع تأكيد د. البوطي أنه مع تشديد العقوبة في الجرائم التي ترتكب اليوم باسم "الشرف"، أعاد التأكيد مرات أنه لا بد من الالتفات إلى، ومعالجة دور الإعلام والقوانين في الحد من "المتعة الخلفية" بحد ذاتها. وهو ما استغرق وقتاً لا بأس به من المداخلة التي امتدت على مساحة نصف ساعة فقط.
سنختم استعراضنا لما قاله د. البوطي بجملة جميلة جداً ساقها في سياق مداخلته، وبعيون بدا فيها ما يقوله: "الحب هو سرّ الحياة، فلنجعله سلماً للقيم والمبادئ وشفافية الروح".
من جهته افتتح د. عبود السراج مداخلته بالإشارة إلى العنوان الذي أطلقه مرصد نساء سورية: "أوقفوا قتل النساء، أوقفوا جرائم الشرف!"، وبينما بدا بجملة "يبدو للوهلة الأولى أن جرائم الشرف هي ظاهرة كبيرة"، لم يكمل إن كان ذلك صحيح بعد الوهلة الأولى، أم أن الواقع يخالف ذلك. لكن من الواضح أن د. السراج يعتقد أن الواقع يخالف ذلك، فقد أكد مرات عدة أن الإحصائيات لا تؤيد كونها ظاهرة اجتماعية. وهذا مثير. لأن د. السراج هو ممن يعرف جيدا مشكلة الإحصائيات في بلدنا. وقد أشار إلى هذه المشكلة في سياق مداخلته حين قال أن الجرائم الأخلاقية هي الأكثر هروباً من الإحصائيات في الدول العربية.
ورغم أنه سبق لنا أن قلنا رأينا بموضوع الإحصائيات مرات عدة، لكننا نكرره هنا. نعم، الإحصائيات لا تعزز ذلك. لكنها "إحصائياتنا"! أي تلك التي توضع على مقاسنا وتشذب وفق ما يلائم أغراضنا! أما الإحصائيات بمعناها الدقيق والصحيح، فهي غير متاحة كلياً. ولكن، هل ينفع أن شهراً ونص شهد 12 حالة قتل باسم الشرف العام الماضي في محافظة سورية واحدة؟! هل ينفع أننا رصدنا، وحدنا وبإمكانياتنا التي هي أقل بكثير من متواضعة، وفي بعض المحافظات فقط، أكثر من 50 حالة قتل باسم الشرف؟! هل ينفع أن نأخذ بالحسبان تلك النسوة والصبايا اللواتي يسممن ويسجلن على أنه "انتحار"، أو "قضاء وقدر"؟! لا نعرف!
ما نعرفه حقاً أن الواقع لا يؤيد أبداً ما يقال على لسان "الإحصائيات". وبالمناسبة فقط، يسرنا في "نساء سورية" أن نعلن للسيد وزير العدل، وللسيد وزير الداخلية، استعدادنا التام للتطوع مجاناً وبوقت مفتوح، لإنجاز إحصائية مبنية على ضبوط الشرطة خلال الأعوام الخمسة الماضية فقط، مع تعهدنا المطلق أن لا يجري إعلان أي معلومة، مهما كانت، غير الأرقام النهائية لما سنخرج به من وقائع. حينها، يمكن لنا أن نتحدث فعلاً عن الإحصائيات! أما في ظل الوضع الراهن، وفي ظل معلومات تقول أن لدى وزارة العدل بعض الدراسات "السرية" التي تعالج هذه المشكلة، ويمنع منعاً باتاً الاطلاع عليها (وهو ما لا نعرف مدى صحته)، فإن المؤشرات التي لدينا، وباتت الآن لدى كل المهتمين من جهات أو وسائل إعلام، تؤكد أن المشكلة أكبر بكثير من مجرد رقم صغير. بل هي ظاهرة خطيرة حقاً حين يقارب عدد النساء المقتولات بأي سبب كان، عدد النساء المقتولات بذريعة "الشرف"!
هذا طبعاً لا ينفي اتفاقنا المطلق مع ما أكده د. السراج مرات في مداخلته: "الرقم ليس مهما. حتى إن كانت امرأة واحدة تقتل يجب معالجة الأمر". هذا المنطق هو ما نعتقد أنه ينسجم حقاً مع روح العدالة التي يحمل قانونها د. السراج، وطبعاً مع روح العقائد السامية جميعاً التي يحمل روح بعضها د. البوطي. "هل هي قطة؟!" حتى تقتل بهذه الطريقة البشعة؟ تساءل د. السراج مؤكداً أن على القضاء أن يكون متشدداً لا متساهلاً.
د. السراج مر سريعاً على المادة /548/ من قانون العقوبات السوري، واستفاض في مشكلة المادة 192 منه. وهي المادة التي تأخذ بما يسمى "الدافع الشريف"، وتستند بشكل كلي تقريباً على اجتهادات قضائية تكاد تحصرها فيما يخص "الشرف"!
والمادة 192 من قانون العقوبات، هي مادة على صلة وثيقة بـ"جرائم الشرف"، لكنها مادة معقدة من أكثر من ناحية، من ذلك أن مشكلة الدافع الشريف هي مشكلة عويصة في الحياة، عموماً. فهي وضعت أصلا في الكثير من التشريعات على أساسا حماية حالات طارئة يتم فيها خرق القوانين لصالح الحياة، لا ضدها. فمثلا: حين تسرق سيارة ترتكب جرماً. لكن حين تسرقها لكي تسعف محتاجاً تدخل في نطاق "الدافع الشريف". وحين يقوم طبيب بشق حنجرة مختنق في الشارع، فهذه جريمة. لكن حين يفعل ذلك لأنها الوسيلة الوحيدة لمنعه من الموت اختناقاً بما علق بحنجرته، يدخل في نطاق "الدافع الشريف". أما في ترجمتنا "الخاصة" للدافع الشريف، فقد أخرجت كل شيء من هذا المفهوم وتركت، فقط، القتلة بذريعة "الشرف"!
د. السراج أثار التباسات عدة في حديثه حين استطرد باتجاهات مختلفة. فقد خرج الحاضرون بآراء مختلفة حول ما أراد بحديثه عن طلبة وطالبات الجامعات الجالسين في مقاعد الكليات "متلاصقين"! والحق أن الأمر اختلط فعلاً. فهل يريد د. السراج أن يفصل بين المقاعد التي تجلس عليها الصبايا، والمقاعد التي يجلس عليها الشباب؟ أم أنه كان يستخدم المثل ليعارض اعتبار ذلك "مساً بالشرف"؟! نحن رأينا الأمر دليلاً على سخافة الكثير من مستويات مفهوم "الشرف" السائد.
كما أن د. السراج كان أقل وضوحاً بخصوص موقفه من المادة /548/. فبينما أكد أن الرجل يستفيد من المادة ولا تستفيد المرأة منها، وهو خطأ قانوني وفق رأيه، لم نعرف إن كان يقف مع إلغائها، أم مع تعديلها، أم مع بقائها كما هي؟ وهذا ما يفترض أن يكون واضحاً في ندوة عنونها "جرائم الشرف"!
إذا، ورغم ملاحظاتنا تلك، نرى أن عقد الندوة بحد ذاته هو عمل هام جداً. فهو يدخل مباشرة في إطار الحوار المجتمعي حول قضية هامة نعيشها. والحوار المجتمعي هذا، المبني على احترام الآخر ورأيه، والحوار معه ومحاججته، هو الأساس الذي حكم عملنا في هذا الأمر. وهو ما نرى أنه الطريق الأمثل للوصول إلى حلول أفضل لقضايا مجتمعنا. وليس الاتهامات المتبادلة، والإقصاء بأي مستوى كان. من هنا كان لمشاركة كل من الدكتورين العلمين في هذا الموضوع الذي يشغل فئات كثيرة اليوم، أهمية كبيرة، نأمل أن لا تتوقف عند جدران أعرق مدرج جامعي في دمشق، بل أن تمتد إلى كل مكان: كل جامعة ومدرسة، كل جامع وكنيسة، كل مقهى وحديقة، كل حارة وبيت.
*- ملاحظة على الهامش: في الفاصل بين انتهاء مداخلتي المحاضرين، وتلقيهم الأسئلة المكتوبة، تقدم أحد أعضاء الجمعية ليلقي قصيدة حماسية "عصماء" بدا من خلالها أنه ما علينا سوى أن نرفع السيف، فوراً وحالاً، ودون أي إبطاء، في الدفاع عن "الشرف"! وإن كنا لم نفهم فعلاً أي "شرف" يقصده: هل هو أن نشرع في ذبح النساء يمنة ويسرة؟! أم أنه "شرف" آخر ذاك الذي دفعه إلى هذا الحماس كله!! لكن من المؤكد أن لغة القصيدة وحماسها لم يكن ينسجم، بحال، مع هدوء الرجلين ووقارهما، ولا مع هدف الحضور الذي جاء حاملاً عقله، لا مدافع هاون!
بسام القاضي- مشرف فريق عمل نساء سورية- (د. البوطي، ود. سراج في صوت واحد: لا لجرائم الشرف!)