ليل 22/7/2007، كان ليلاً آخر حالكاً. فبالقرب من عامودا- الحسكة، وجدت صبية أخرى لم تتجاوز عامها العشرين، مثقوبة الرأس بطلقتين بعد أن فشلت سكين مثلمة في ذبحها في الرقبة، فعاجلتها بطعنات عدة لم تؤدي إلى وفاتها، لتتكفل الطلقات بذلك! والقاتل – الضحية، شقيقها الذي سلم نفسه مدعياً أنه قتلها "غسلا للعار"، لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره! بينما ينفد هنا وهناك القتلة الأساسيون من كل عقاب! ولعلهم، في هذه اللحظات التي تقرؤون فيها هذه الكلمات، يتبادلون التهاني والتبريكات بما اقترفت أياديهم السوداء!
امرأة سورية أخرى تقتل على مذبح "الشرف" خلال أيام قليلة! ومسؤولون سوريون يصرحون بكل ثقة: "ليس هناك ظاهرة في سورية تدعى جرائم الشرف"! ومسؤولون آخرون يدعون، دون أن يرف لهم جفن، أن هذا القتل إنما "يحمي أخلاق الأسرة الشرقية من الانحلال الغربي"! وآخرون وآخرون يملؤون صدورهم خيلاء وهم يتحدثون عن "الإسلام الذي سمح للأشخاص بالقتل دفاعاً عن العرض"! والأهم من هؤلاء جميعاً، أولئك الذين لا "يصرحون"، لكن بيدهم مفاتيح ذهبية للقرار، ويعرقلون كل العمل الجاد الهادف إلى وضع حد لهذا القتل البشع الذي جعل سورية في الترتيب الخامس عالمياً من حيث ارتكاب "جرائم الشرف"! يعرقلون ذلك منذ أطلق مرصد "نساء سورية" صرخته العالية ضد هذه الجرائم قبل عامين ونيف، كاسراً جدار الصمت الأسود عن الجرائم المرتكبة باسم الشرف!
نعم، من يعرقل تعديل القوانين (خاصة المادتين 548، و192 من قانون العقوبات السوري) ويعرقل استصدار تشريع بإلغاء الأولى وحظر تطبيق الثانية على الجرائم المرتكبة باسم الأخلاق، ويمنع وسائل الإعلام السورية الأكثر فاعلية وتأثيرا، خاصة التلفاز والإذاعة من تناول صريح ومستمر لهذه الظاهرة البشعة، ويمنع الجمعيات والمنظمات السورية من حرية الحركة في نشاطها المضاد لها.. من يعرقل كل ذلك، بات اليوم يدفعنا للتساؤل جدياً عمن هو القاتل الحقيقي في جميع هذه الجرائم التي تعد أعداد ضحاياها السنوية بالمئات من النساء السوريات!
فمن يعرقل ذلك؟!
إنهم أولئك المسؤولون الذين يصدرون الأوامر في وسائل الإعلام، أوامر تتضمن التهديد شبه الصريح، بعدم تناول هذه الظاهرة وعدم تسميتها! ورغم مرور وقت قصير سمح فيه ببعض التركيز إعلاميا على هذه الظاهرة الخطيرة، إلا أنهم/ن سرعان ما تراجعوا ليمنعوا أي حديث صريح، بينما القتل يتم بكل "صراحة"!
وهم أولئك الذين ما زالوا، باسم الإسلام، يبحثون عن الذرائع لهؤلاء القتلة مدعين أن "العرض" هو هذا! وهؤلاء، وليس غيرهم، هم من يشوه صورة الإسلام بإلصاق صفة العنف الدموي ضد المرأة فيه، وليس "الغرب الملعون" الذي يرى كل هؤلاء وهم يتسابقون في الدفاع عن قتل النساء السوريات بأية ذريعة كانت! والأمر ذاته مع بعض رجال الدين المسيحيين الذين يفعلون المثل باسم الدين المسيحي!
وهم أيضاً أولئك الذين يطنطنون في المنابر عما تحقق للمرأة السورية، ويلقون بمسؤولية القصور كله على "العادات والتقاليد"! ثم يمنعون ويحظرون ويضيقون على الجمعيات والمنظمات التي تحاول أو حتى تفكر أن تساهم في تغيير هذه "العادات والتقاليد" التي بات بعضها يشكل عاراً على كل سوري وسورية! مرة بحلها.. ومرة بحظر التعامل معها.. ومرة بإلغاء نشاطاتها.. ومرة بإزعاجها ليل نهار..
وهم أيضاً أولئك الذين بيدهم التشريع في سورية، وما زالوا يقفون موقف المعارض لأي تغيير، أو حتى موقف المتفرج، بينما النساء السوريات يذبحن وتهشم رؤوسهن بأبشع الصور التي يمكن تخيلها! ولأتفه الأسباب، أخلاقية كانت أم مالية بحتة!
وهم أولئك الذين يفرض عليهم قسمهم أن يصونوا روح العدالة، لا روح القتل والقصاص الفردي، وما زالوا يدافعون ويجدون المخارج للقتلة المباشرين، ويغطون على القتلة الحقيقيين: الذين يعقدون المجالس لاتخاذ قرار القتل ويختارون الضحية التي ستنفذ حكم الإعدام ويؤمنون "كافة المستلزمات والعلاقات" لضمان مرور خروج القاتل المباشر من السجن في وقت قليل، ثم يعقدون حفلات الدبكة أو الرقص أو تقبل التهاني بما اقترفت أياديهم الآثمة! وقد آن الأوان لنقول هنا أن بعض هؤلاء القتلة الحقيقيين هم من ذوي النفوذ الاجتماعي، وبعضهم الآخر من ذوي النفوذ "غير الاجتماعي"!
وأيضاً، وبلا أي تردد، هم أولئك في الأحزاب والقوى والمنظمات السورية الذين ما زالوا يصمتون على هذا الأمر صمتهم الغريب! كل تلك الأحزاب والقوى والمنظمات التي تدعي أنها تعمل من أجل مجتمع أفضل، أو مستقبل مشرق.. ولا تجد الحاجة لإصدار حتى بيان إدانة لهذه الجرائم! رغم أنها تصدر البيانات النارية عند كل مناسبة من كل نوع! وبينما تحفل جرائدها ومواقعها الالكترونية وثائقها وبرامجها ببنود وبنود، لا تجد "حاجة" لتقول إن قتل النساء السوريات بأية ذريعة هو جريمة كاملة الأوصاف! وأن القانون الذي يحمي هؤلاء القتلة هو قانون جائر وظالم ويجب إلغاؤه فوراً! ولا تجد الوقت الكافي حتى لتخصيص اجتماع واحد لقياداتها التي لا تتوانى عن الاجتماعات تخصصه لمن لا يكفون عن تسميته: نصف المجتمع!
نعم، نحن نعتقد دون مواربة أن كل حزب "في" سورية، أو يحمل في اسمه صفة "سوري"، أو يهتم بالمواطنين والموطنات السوريات، سواء كان في السلطة أو خارجها، لا يعلن موقفاً حازماً واضحاً من هذه الجرائم، هو شريك في ارتكاب هذه الجرائم، ومشجع عليها، وتنطبق عليه ما ينطبق على المحرضين المباشرين على القتل. فليس من المعقول، بعد انكشاف هذه الظاهرة وحجمها وبشاعتها، أن تدعي هذه الأحزاب أنها تعمل على تحقيق العدالة أو التقدم أو التطور أو أياً كانت مسمياتها، وهي لا تهتم بواحدة من أهم قضايا المرأة السورية! وتكتفي بجملها "الكبيرة" المطاطة حول تطوير وضع المرأة السورية!!
القتل على "الشرف" بات اليوم عاراً على من يحميه! على من يستمر بإبقاء المواد القانونية التي تسمح للقتلة المباشرين بالتهرب من العقوبة العادلة! على من يغطيه دينياً أو اجتماعياً..! على من يصمت على ما يجري لأي سبب كان..
واليوم، حان الوقت لنقول إن دم كل امرأة سورية تقتل بهذه الذريعة، ثم لا يتلقى القتلة جميعاً، الذين نفذوا القتل، والذين اتخذوا قرار القتل، والذين حرضوا عليه، والذين احتفلوا به، عقابهم العادل.. إن دم هؤلاء النساء هو دين ممتاز برقبة الجميع! وخاصة هو مسؤولية مباشرة برقبة جهات ثلاث هي أهم من يستطيع أن يوقف هذا القتل:
الجهة الأولى: إنه مجلس الشعب الذي لا شيء يبرر صمته أو توانيه في إقرار إلغاء المادة 548 من قانون العقوبات إلغاءاً كلياً، وحظر تطبيق المادة 192 من القانون ذاته فيما يخص الجرائم المرتكبة باسم الشرف، بل ووضع قانون جديد يجعل من المحرضين ومتخذي القرار والمحتفلين شركاء كاملين في الجريمة! هذه مسؤولية مجلس الشعب برمته، وخاصة النساء منه!
والجهة الثانية: هي وزارة العدل التي ما زالت صامتة علناً عن هذه الجريمة البشعة. لكننا نعرف أن فيها من يعارض بقوة أي إلغاء لهذه القوانين! وفيها من يحاول الالتفاف عليها عبر إدخال بند يسمح للمرأة التي تقتل بالذريعة نفسها أن تستفيد من العذر نفسه، وهو ما نرفضه بقوة ونعده تشجيع على الجريمة من الغريب أن يقوم به من هو في وزارة مهمتها تطوير أدوات تطبيق العدالة، وتضييق المجال أمام ارتكاب الجريمة، لا إفساح المجال أم جرائم جديدة!
ونعرف أيضاً أن اتخاذ هذه الوزارة لموقف حاسم لصالح مواجهة "جرائم الشرف" سيكون له دور حاسم في تضييق الخناق على هذه الظاهرة البشعة.
والجهة الثالثة: هي وزارة الأوقاف، بكل ما فيها ومن يتبع لها من أئمة أو رجال دين أو شريعة أو عاملين في الحقل الديني. فرغم أن بعض رجال الدين اتخذوا مواقف مشرفة في هذه القضية، وعلى رأسهم سماحة المفتي د. أحمد حسون، ود. محمد حبش رئيس مركز الدراسات الإسلامية وعضو مجلس الشعب، ود. محمود عكام، ود. محمد سعيد رمضان البوطي، ود. توفيق البوطي.. وغيرهم.. إلا أنه ما زال على الوزارة كسلطة تنفيذية أن تتخذ موقفاً واضحاً صارماً لا لبس فيه: إما مع هذه الجرائم وهذا القتل، ولتعلن ذلك علناً بتوقيعها! وإما ضد هذه الجرائم وهذا القتل، ولتبادر حينها إلى العمل الجاد الذي تستطيع أن تقوم به في إلزام رجال الدين، على كافة المستويات، أن يواجهوا هذه الجريمة عبر حملة توعية واسعة النطاق تشرح الموقف الحقيقي للإسلام من هذا الأمر..
قلناها سابقاً مع شركاءنا جميعاً في الحملة الوطنية: "لا لقتل النساء.. لا لجرائم الشرف!"، إن هذا القتل هو مسؤولية كل مواطن ومواطنة سورية. وإن مواجهته كذلك هي مسؤوليتنا جميعاً. ولكنها الآن، وبعد عامين ونيف على إطلاقها، باتت أولاً مسؤولية الحكومة في أن تتخذ الإجراءات الكفيلة بردع هذه الظاهرة. مسؤولية الحكومة الآن أن تطبق ما نصت عليه الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها وتتعارض كليا مع ما يجري (اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة CEDAW)، مسؤولية الحكومة أن تلغي هذه القوانين وتلك الاجتهادات التي تجعل من الدستور في حمايته ومساواة للموطنين السوريين حبراً على ورق!
مسؤولية الحكومة التي ما زال بعض المسؤولين "الفاعلين" فيها يناقشون إن كان هذا القتل يشكل "ظاهرة" أم لا! ويتساءلون ويتساءلن: كم عدد النساء اللواتي يقتلن بهذه الذريعة قياساً إلى عدد النساء السوريات!! مستنكرات ومستنكرين أن مئات من النساء يقتلن سنوياً بهذه الذريعة.. يستحقين منهم ومنهن وقتاً يبدو أنه أثمن من الأرواح المهدورة لنساء سورية!
بسام القاضي، مشرف فريق عمل نساء سورية- (ضحية "شرف في الحسكة.. والحكومة ما تزال.. صامتة!!)