لعله لم يمرّ في تاريخ الدراما السورية مسلسل أشد كرهاً ومسخاً للنساء عموماً، وللنساء السوريات خصوصاً كما مسلسل "باب الحارة"! حمقاوات فلا يعرفن كيف يحاكمن أصغر الأمور! تافهات لا يشغلهن شاغل يحوز على أدنى قدر من الأهمية! عاجزات لا يمكن لهن العيش للحظة واحدة دون السيطرة المطلقة لذكورهن! عالمهن هو عالم من النميمة والحسد والدسائس! وجلّ همهن هو الطعن بامرأة أخرى، أو تشويه عائلة ما! وفي أقل الأحوال سوءا التعاطف مع امرأة أخرى بنفس الأسلوب السخيف! تابعات مطلقات لا يشغل بالهن سوى ما يريد ذكور العائلة! سدرة مبتغاهن هو رضا أولئك السادة في القرب وفي البعد!
هل رأينا "تشكيلة واسعة" من النساء المقيتات في أي دراما سبق أن عرضت على الشاشة الفضية، سورية أو غير سورية، كما هو عليه "باب الحارة"؟! لا أعتقد! فقد شكل مسلسل "باب الحارة"، على مدى أيام رمضان كاملة، تأكيداً متواصلاً على دونية المرأة وانسحاقها المطلق بصفته الوضيعة الطبيعية لها في المجتمع!
ولا يقلل من هذا الأمر أبدا الادعاء أن الحديث يجري عن حارة معينة في مرحلة تاريخية معينة! هذا مجرد تعمية على واقع أن الدراما لا تعتمد على سيرة تاريخ كامل لبلد كامل! بل تعتمد دائما على تشكيلات اجتماعية صغيرة غالبا ما تكون أسرة واحدة أو بضعة أسر. وتشكل هذه الحارة هنا بلداً كاملاً حتى لو أطلق عليها اسم حارة بعينها. كما أنه لا يغير في الأمر شيئاً أن يكون الحديث عن حارة واحدة من حارات دمشق أيام زمان، حين كانت دمشق برمتها بضعة حارات فقط لا غير! ولن ندخل في نقاش تاريخي إن كان هناك حارة في هذا البلد على هذا النحو! إذ لو كان الأمر هكذا لكانت الأجيال اللاحقة لهذه الحارة، والتي ربتها نساء هذه الحارة ورجالها، مجرد مسوخ جديرة بالشفقة! ولنسأل أمهاتنا وأبائنا عن أمهاتهم وأبائهم إن كانوا قد عاشوا وأداروا حياة، هي بداية بناء المجتمع الحديث في سورية، على هذا النحو من السخف والمقت؟! إلا أن بعض من يقول أن هذا "هو تاريخنا" لا يفعل سوى أن يشوه التاريخ لأن ما يريده في الحقيقة هو أن يعيد التاريخ كله إلى زمن افتراضي لم يكن إلا في رأسه: زمن يحقق فيه سلطة زمنية مطلقة على حياة العباد، بأسماء مختلفة!
لم يكن هذا التسخيف مكرساً فقط عبر الشخصيات النسائية المهزوزة والناقصة التي حفل بها المسلسل، بل أيضاً عبر الذكورية المطلقة المشوهة والممسوخة والتي قدمت على أنها مثال يحتذى! فرجال باب الحارة أيضا هم رجال يثيرون الشفقة، كلمة من هنا أو هناك تأخذهم حيث يشاء مطلقها، لا يعرفون كيف يبتسمون، ولا يعرفون كيف يعطون عاطفة ولا يتلقونها! همهم الأوحد هو ماذا جرى لفلان أو لفلانة! وحتى قضيتهم "الوطنية" معلقة على سفاسف الأمور!
والأولاد حظوا أيضا بحصتهم من التشويه. فشخصياتهم شخصيات ممسوحة، أو نزقة، أو مطلقة العصبية، أو عاجزة عن اتخاذ القرار.. وهم في عرضة دائمة للتعنيف بكل أشكاله في أية لحظة!
وقد نشرنا هنا، في "مرصد نساء سورية" مقالات عدة تسرد سلسلة من الكلمات والمصطلحات والمسبات والإهانات التي حفل بها المسلسل. لذلك لن نكررها هنا. لكنها شكلت العمود الفقري الأساسي للغة المسلسل المغرقة في ساديتها ضد المرأة والأولاد، وخاصة البنات!
إلا أننا نستعيد بشكل خاص تأييد المسلسل الواضح والصريح للقتل بذريعة الشرف! حين استعاد التهديد بالذبح على البلوعة كصيغة مؤدية إلى "الحفاظ على الأخلاق" وفق القيم الخاصة والمريضة التي يدعو إليها المسلسل! ومن وجهة نظرنا هذه فإن هذا الصياغة تشكل بحد ذاتها دعوة صريحة وعلنية للكراهية والقتل!
في كل هذا، جرى تأكيد متواصل ومستمر في هذا المسلسل على أن الرجال هم "القادة العظام" و"الأرباب" التي لولا "الطاعة المطلقة" المحققة لهم لكان العالم جحيماً وخراب! هذه هي باختصار مقولة "باب الحارة" مهما حاولنا تزيينا بمعطيات تاريخية أو وطنية! فنظرة واحدة للمسلسل بشكل متكامل تظهر بوضوح أن كل شيء كان متعلقاً على علاقة الرجل بالمرأة وبالأولاد، مرات بشكل مطلق الصراحة والوضوح، ومرات بأشكال مضمنة أو ملتبسة!
وقد ساهم هذا المسلسل، كما رأينا جميعا، في ترويج مسبات وشتائم كثيرة بتنا نسمعها على لسان الكبير والصغير، في الشارع والبيت، في استعادة مثيرة للقرف لما يجري في مسلسل لا يمت إلى الواقع ولا إلى حقيقة التاريخ بصلة، كما لا يمت إلى أدنى معايير الكرامة الإنسانية بصلة! وهو ما نعده دعوة عنصرية قائمة على الجنس، وتتعارض كلياً مع جوهر مفاهيم الأديان (أيا كان ما يريد "رجال" الأديان ادعاؤه للحفاظ على سيطرتهم الذكورية المريضة)، كما يتعارض مع أبسط حقوق الإنسان في القرن الواحد والعشرين!
إن الدراما، التلفزيونية خاصة، باتت واحداً من أهم أسلحة التغيير الاجتماعي في العصر الحديث، بسبب من التغيرات العاصفة التي جعلت من الشاشة الفضية (التلفاز أولا ثم الكمبيوتر)، أهم قنوات التواصل الفكري بين الناس. والمسلسلات خاصة، بحكم خصوصية تكوينها، تشكل سلاحاً يمكن القول بأنه الأكثر أثراً بإطلاق.
من هنا، لا يمكننا إلى أن نقدم "الجائزة السوداء" لمسلسل باب الحارة، خاصة لكاتبه وكاتب السيناريو فيه، دون أن تخلى المسؤولية الكبرى لمخرجه، وبعض من المسؤولية على كل من شارك فيه بأي شكل كان.
وإذا كنا نعيد التأكيد على مدى تقديرنا واحترامنا للممثلات والممثلين الذين صنعوا هذه الدراما، والذين نعرف أعمالهم على مدى عقود، فإنه لا يمكننا إلا أن نعتب بشدة على قبولهم بمثل هذا الترويج الباطل! خاصة أننا نعرف أن أيا منهم ومنهن لا يعيش، ولا يقبل أن يعيش هذا الوضع المريض لعلاقة المرأة بالرجل!
رسالتنا لكم ولكنّ: بأيدكم أن تقدموا معالجات جادة وعميقة لحياتنا اليوم، سواء عبر قضايا معاصرة أو عبر التاريخ، بأيدكم أن تؤثروا بشدة على عقول الناس، خاصة على عقول الأطفال والمراهقين، فإذا كنتم لا ترغبون، أو لا تستطيعون طرح القضايا الجوهرية التي نعيشها، فليس أقل من أن لا تستخدموا هذه السلطة المخيفة فيما يكرس العنصرية الجنسية والتمييز والكراهية والانحطاط! لا تستخدموها فيما يكرس المزيد من التدهور!
بسام القاضي، عضو فريق عمل نساء سورية- (الجائزة "السوداء" لمسلسل "باب الحارة"!)