وإن اختلف البعض في تعريف الزواج لدينا إلا أنه هناك إجماع على خصوصية عقد الزواج الذي يحل فيه استمتاع كل من الزوجين بالآخر. وهذا التعريف يحمله المجتمع في روحه كأخلاق اجتماعية. إلا أن هذا المفهوم يأخذنا بعيدا عن حقوق الأسرة ويدخلنا في نفق سلب للحقوق أي هناك ضحية مجانية مستمرة ومتكررة في كل أسرة.
فالزواج وإن كان ركنا أساسيا للأسرة فلا بد أن يقوم على سبب اجتماعي أبعد من الاستمتاع بالآخر، وأوسع من مفهوم العقد، وأقرب إلى الواقعة الاجتماعية منه إلى السرّ. فهو واجب يفرضه العقل كما يقول هيجل ((فالزواج في ماهيته رابطة اجتماعية وهو تموضع ضروري للعقل.. وليس هو مجرد علاقة جنسية أو عقدا وليس أساسه الحب وحده..)) بل يعني من وجهة نظره ((.. أتحد مع الآخر بحيث لا أكون في عزلة أنانية لكني أحصل على وعيي بذاتي عن طريق رفضي لاستقلالي الخاص وأن أعرف نفسي كوحدة لذاتي مع الآخر ووحدة للآخر معي..)).
((فالزواج في ماهيته واحدي لأنه عبارة عن شخصية تدخل في هذه الرابطة (الاجتماعية) وتسلم نفسها لها. ومن ثم فإن حقيقة هذه الرابطة هي الاستسلام المتبادل الكامل لهذه الشخصية وتبلغ الشخصية مستوى الوعي الذاتي عن طريق الآخر بمقدار ما يكون هذا الآخر شخص ما..)). ويقصد بما يحمل هذا الآخر من حقوق.
إذن بالزواج تنشأ شخصية جديدة اسمها الأسرة. وهي مستقلة عن شخصية الزوجين ومتميزة عنهما. وعلى الزوجين التسليم لهذه الشخصية الجديدة بقبول حقوق الشريك. وبدون هذا القبول لا يمكن أن يكون لدينا أسرة صحيحة. وأهمية هذا القبول يتجاوز الأسرة ليصبح وجها للمجتمع. أي الطاغية في أسرته طاغية في المجتمع، ومن لا يحترم حقوق أحد شركائه في الأسرة لا يمكن له أن يحترم حقوق شركائه في المجتمع، لأن الأسرة هي التي تنتج المجتمع.
وعليه فبقدر ما تكون الأسرة صحيحة وعقلانية بقدر ما ينعكس على المجتمع صحة وعقلانية. سيما وأن الدولة هي مركب الأسرة والمجتمع.
إذا، فيجب أن ترعى الزواج قوانين تناسب الأساس الذي تقوم عليه الأسرة. وهذا يقتضي بالضرورة وجود قانون واحد متطور لمجتمع واحد. وهذا بغاية الأهمية سيما لمجتمع كسوريا: مجتمع منسجم ومتفاعل ومثقف، فتكون هنا غاية التشريع ليس فقط المحافظة على استقرار المجتمع وانسجامه، بل عليه أن يزيد من الانسجام والتوافق بين أعضاء المجتمع في كافة الإتجاهات. ومن المظاهر السلبية أنه لدينا ما يقارب الست قوانين للأحوال الشخصية. دون أن نجد مانعاً لأن يكون هناك قانون واحد للأسرة السورية! فالقانون مستقل عن مصادره مهما كانت. والقانون يمثل سيادة المجتمع وحريته، ولا يمكن أن يكون عقلانيا إلا برعايته لحقوق المجتمع الذي يغضبه أن نقول أسرة أرثوذكسية أو أسرة مسلمة أو درزية أو علوية أو كاثوليكية أو....... هذا يدمر المجتمع ويحزنه لأن الأسر فيه سورية، وفقط سورية، ويرعاها قانون سوري يمثل سيادة المجتمع بمؤسساته.
إن منشأ معظم الخلافات الأسرية هو خوف الشريك على مستقبله.. وهذا الخوف سببه قوانين الأسرة التي وضعت لظروف وزمن آخر يختلف عن الحاضر. هذا الزمن تغيرت فيه الأسرة على أرض الواقع وبقي القانون الذي ينظم الأسرة قاصرا عن مجاراة هذا التطور. فمثلا المرأة السورية الآن ليست هي المرأة في السبعينات من القرن الماضي أو في خمسيناته. ففي حين كانت تتمتع بالجهل ونقصان كبير في إنسانيتها أصبحت الآن مواطنة (بحسب الدستور) ناخبة ومنتخبة لها ما للرجال وعليها ما عليهم من حقوق المواطنة وواجباتها. وفي مؤسسة الأسرة إضافة لمهامها الخاصة (في الإنجاب والإرضاع..) أصبحت شريكا في الإنفاق على الأسرة. تتقاضى راتبا وقد يكون أكبر من راتب الزوج وكلا الزوجين ينفقان على أسرتهما. وهذا الواقع شائع ومعروف وهذا يعني أن الأب والأم ينفقان على أسرتهما. وهذه الشراكة في الإنفاق يجب أن يقابلها التساوي في ملكية أملاك الأسرة. ويجب على القانون أن يلحظ هذه التطورات في الأسرة وأن يخصها بنصوص تحفظ فيه الأسرة من أهواء ومخالفات من تسوله نفسه العبث بها أو يقصر في أداء واجبه تجاهها.
فليس هناك ما يمنع أن يكون كل ما يملكه أحد الزوجين بعد الزواج هو ملك للزوجين معا مناصفة. ويمكن تدوين هذا الاتفاق. والأهم أنه سيكون سببا من أسباب اطمئنان الزوجة التي تقدم رواتبها لأسرتها دون أن يكون هناك أي خوف من أن تعتبر على سبيل التبرع (للزوج) في حال قيام أي نزاع.
مقدمة أخيرة: جاءت برفقة زوجها.. حزنها العميق والدموع التي تنهمر من عينينها الخضراوين تزيدانها وقارا واتزانا.. الشيب بدأ خجولا في شعرها وبعض التجاعيد ترتسم على محياه. قدمت ما يقارب الثلاثين عاما لأسرتها.. كانت معلمة منذ أن تخرجت من الصف الخاص وحتى الآن. وأيضا زوجها معلم. لم يكن هناك أية مشكلة في حياة الأسرة. كبر الأولاد وطاروا إلى المجتمع وكل منهم كون أسرة مستقلة. فلم تكن مشكلتها في أن كل ما جناه الزوجان مسجل قانونيا باسم الزوج في بداية الأمر ولكن بعد أن لم يعد هناك من يحتاج لعطاياها كأم. فكرت بنفسها... عندما تزوجا استأجرا غرفة ثم اشتريا شقة للأسرة عن طريق قرض عقاري باسم الزوج وهي الكفيل المتضامن. وأصبحت أملاك (الأسرة) كبيرة بنضالهما معا ولكن كل شيء باسم الزوج قانونيا.. وهي لا شيء باسمها ومؤخر مهرها أقل من رواتبها لعام واحد... شعرت بالغبن من مجتمع لم يفكر بحقوقها..
لم يكن من اللائق أن تطلب من رب أسرتها (زوجها) أن يكتب لها نصف أملاكه كونها شريكة حقيقية في ما وصلوا إليه. عاشا معا على الحلوة والمرة وما بينهما من خصوصيات أهم من المال.. التقاعد وسن اليأس أوحيا لها بأن العمر أخذ أنوثتها. وهناك خوف يعشش في وعيها من تعدد الزوجات. قد لا يفكر الزوج بذلك ولكن إن أقدم على ذلك من سيمنعه فالقانون يسمح بذلك.. قال لها الزوج سأتعهد بعدم الزواج ثانية تحت أي ظرف وأمام أي مرجع قضائي.. وكان السؤال في مدى قانونية هذا التعهد..؟ فمن خلال القانون إنه تعهد باطل! وبإمكانها أن تشترط عليه في حال قيامه بالزواج ثانية لها الحق في الطلاق منه مع استحقاقها لكامل مهرها.. حزنت أكثر قالت: إن مثل هذا الطلاق في هذا السن والحال ليس حلا! بل هو مشكلة كبيرة وأسوأ من مقام الزوجة الأولى.. زفرت وقالت: ما قيمة القانون إن لم يحم الأسرة ويعفي الزوجة من إحراج المطالبة بحقها؟! لأنها تبدو حينها وكأنها تقسم الأسرة! لماذا لم ينص القانون على أن ((كل ما يتملكه الزوجان بعد الزواج يعتبر مناصفة بين الزوجين)) سواء أكانت الزوجة منتجة أو غير منتجة؟!.. وإلا بماذا يمكن أن نكيف عمل المرأة في البيت وإنجاب الأطفال والإرضاع والواجبات الأخرى المعروفة؟؟ هل هو عمل لمصلحة رب عمل أو أنه عمل مقابل إنفاق الزوج عليها أو أنه على سبيل التبرع... إذن فلابد للقانون من أن يعرف الأسرة بما يخدم المجتمع والدولة وليس له أن يقبل بتعريف الأسرة خارج إطار حالة المجتمع الراهن.
دور القانون أعمق وأبعد من ذلك، إذ عليه أن ينظم الحقوق بشكل دقيق ليكون واضحا في فصله عند حدوث نزاع بين الزوجين وعليه أن يجيب على كافة الأسئلة المطروحة والمحتملة. وأن يعمم العلة العقلية على كافة الحلول للمسائل المطروحة أو التي ستطرح. والأهم أن القانون يشرع لواقع محدد بدقة وإن أي تغيير في هذا الواقع يجب أن يرافقه تغيير مناسب في التشريع.
المحامي بديع وسوف، حمص، (حقوق الأسرة أساس الحق في المجتمع)