تتابع المفاجآت غير السارة مما يسمى بمنظمات حقوق الإنسان في سورية، والتي أثبتت خلال الشهور الماضية أنها ليست إلا منظمات بيانات تتعلق بحقوق المعتقلين (وهي قضية هامة بالتأكيد، لكنها ليست إلا بابا صغيرا من الإسم العملاق الذي تحمله هذه المنظمات).
من تلك المفاجآت أن أغلبها لم يتخذ بعد موقفا صارما وواضحا من قضية "جرائم الشرف" التي تقتل فيها نحو 200 امرأة سورية سنويا تحت مسمى "الشرف"! وأن أغلبها لم يتخذ موقفا واضحا ومحددا من قضية المساواة على أساس المواطنة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات! ومنها الصمت المريب عن مشروع قانون الأحوال الشخصية بنسختيه الأولى الطالبانية والثانية المتخلفة!
وآخر هذه المفاجآت خروج هذه المنظمات ببيان سمته "الإعلان عن تأسيس المنبر السوري للمنظمات غير الحكومية"، تضمن توقيع 8 منظمات (أدناه أسماؤها)، واحدة منها لم يسمع بها أحد إلا منذ بضعة أيام حين صدر بيان من المنظمات نفسها يدين ما سمي "الحملات المسعورة التي تشنها بعض الصحف المشبوهة في تونس وخارجها، مكيلة السباب والشتائم والاتهامات الباطلة للعديد من المؤسسات الحقوقية والمدنية التونسية والمغربية"! هي "الهيئة السورية لشؤون المرأة والطفل"! فإذا كان من ذرائع منظمات حقوق الإنسان إخفاء الكثير من أسماء أشخاصها وواقع هذه المنظمات تحت الذرائع "الأمنية"، (رغم استغرابنا كيف يمكن لعمل مدني أن يكون مدنيا بدون الشفافية! ورغم استغرابنا كيف ينسجم ادعاء هذه المنظمات أنها "تحمي نفسها أمنيا" في الوقت الذي لا تكف فيه بياناتها عن تأكيد قدرة المخابرات السورية على الوصول إلى كل معلومة"!)، فإنه لمن الغريب العجيب أن تكون هناك منظمة اسمها "الهيئة السورية لشؤون المرأة والطفل" لا يعرف بها أحد، ولم يتمكن أحد من الوصول إلى أي من "القائمين" عليها، أو عناوينها، ولا إلى أي من النشاطات التي تقوم بها! الأمر الذي يدعونا إلى الشك الكامل بوجود هذه المنظمة من أصلها. وإلى القول أنها ربما لا تكون سوى حبرا على ورق "أنشأت" لأغراض ينفع فيها الاسم، حتى إن كان وهميا!
إلى ذلك، فقد قال بيان إعلان التأسيس أنه "تم اللقاء التحضيري الأول لمنبر المنظمات غير الحكومية في سورية ,وبحضور ممثلين عن الهيئات والمنظمات غير الحكومية في سورية, الموقعة أدناه، تركزت الحوارات حول أهمية دور المجتمع المدني في (1) تقييم إعلان برشلونة، ودعم تطبيقاته, حتى لا تصبح مجرد حكومية. "! هذا أيضا غريب بكل معنى الكلمة.
فبعد أن شهدنا احتكار اسم "حقوق الإنسان" وقصقصته وتقزيمه ليتحول إلى "بيانات حول اعتقال أشخاص"، ها نحن نشهد تمددا مثيرا فعلا إلى "منظمات المجتمع المدني"! إذ إن هذا الاجتماع المثير أيضا، والذي لم يذكر أين عقد ولا تاريخ عقده، لم تعرف به ولم تدع إليه أي من المنظمات والجمعيات العاملة في قضايا المرأة في سورية، وبضمنها "مرصد نساء سورية"!
ومن الغريب أن يقوم هذا "التجمع" بالادعاء أنه منبر "للمنظمات" غير الحكومية، فيما هو لا يمثل سوى ثمانية أسماء لا تشكل، في أحسن الأحوال، أكثر من 1 % من المنظمات غير الحكومية السورية! وليس لأن الآخرين رفضوا المشاركة، بل لأنهم لم يعرفوا أصلا بالأمر من أساسه إلى رأسه!
لكن ربما تفسر الجملة العابرة "في تقييم إعلان برشلونة، ودعم تطبيقاته"، الحقيقة الكامنة وراء هذ الإعلان! فما يهم ليس المجتمع المدني السوري، وليست مشاكله وعثراته، وليس تقصيره وصمته عن أهم قضايا المجتمع المدني، وليس اتجاهه إلى إصدار البيانات المضحكة حول تقرير "غولستن"، ومراقبة الانتخابات اللبنانية، فيما هو صامت عن تقارير تمس حياة البشر السوريين، رجالا ونساء، في قلب البلد الذي تحمل هذه المنظمات اسمه! بل إلى دعم تطبيقات إعلان برشلونه!!! فهل في البلد من يعرف ما هي تطبيقات إعلان برشلونة؟ هل هناك من يعرف ما علاقة تلك التطبيقات بالمجتمع المدني السوري ومنظماته؟ هل هناك من يعرف كيف يمكن دعم هذه التطبيقات من قبل منظمات لا تكف عن الشكوى أنها لا تستطيع حتى إصدار بيان مناهض لأي من أشكال العنف ضد المرأة السورية بذريعة أن "إمكانياتها لا تسمح لها"؟
الإعلان مليء بالقضايا المثيرة فعلا. فإضافة إلى ما سبق يقول الإعلان أن الحوارات قد تركزت على: "... إضافة إلى الحوار حول الدور المتنامي للمجتمع المدني، و العمل المنوط به وضرورة العمل على استقلال منظمات المجتمع المدني عن الحكومات، و عن دور منظمات حقوق الإنسان في ذلك. وبما يتفق مع رؤية العمل المدني غير الحكومي في إطار من الاستقلالية التي تعمل على نقد وتقييم الخطوات الحكومية,و بهدف صياغة رؤية غير حكومية تدفع في اتجاه خطوات مغايرة تعبر عن مصالح وتطلعات الشعوب على أساس مبادئ حقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والثقافية".!
من الواضح أن هناك حاجة إلى قاموس، وإلى مفسر في المنطق، لتجميع كل ما تم إدخاله في هذه الأسطر القليلة أعلاه! إلا أن من المهم هنا التساؤل عن "دور منظمات حقوق الإنسان" في دعم استقلال منظمات المجتمع المدني عن الحكومات! فكيف يمكن لمنظمات حقوق الإنسان السورية فعل ذلك وهي صامتة عن الانتهاك الفظ من قبل الحكومة لحقوق الإنسان وحقوق المواطنة فيما يخص أكثر من ثلاثة أرباع المجتمع (المرأة والطفولة) صمتا مقيما؟! كيف يمكن لها أن تفعل ذلك وهي ترفض أي شكل من الشفافية؟ كيف يمكن لجهة أن تنتقد الحكومة (ولا توجد، ولن توجد حكومة لا تستحق الانتقاد، بل الانتقاد القاسي)، فيما يخص العلانية والشفافية والتقصير وهي لا تقبل أدنى نوع من النقد لغياب علانيتها وشفافيتها وتقصيرها؟!
وكيف ستدعم هذه المنظمات تلك الاستقلالية؟ هل هي على علاقة مع أية جمعية تعمل في قضايا المعوقين مثلا؟ أو في قضايا الطفولة؟ أو في قضايا أبناء المساجين؟ أو في قضايا العنف ضد الأطفال؟.. هل تمكنت من بناء أي مستوى من الوجود الفعلي على الأرض، أو في الشبكة المجتمعية خارج العلاقات الشخصية بين فلان على رأس هذه المنظمة وفلان على رأس تلك المنظمة من "منظمات حقوق الإنسان"؟!
سيتضح كل شيء بعد قليل. يقول الإعلان: "وتم الاتفاق على تأسيس المنبر السوري على أن يعمل كصوت مدني غير حكومي في إطار اتفاقية الشراكة الأورومتوسطية, وفقاً لرؤية وأهداف تخدم المصالح المشتركة لشعوب المنطقة". فها قد وضعنا الجمال في خان الزيت. فالمسألة ليست مسألة مجتمع مدني سورية تغيب عن جل قضاياه أغلب تلك المنظمات، وتنقطع عن ناسه بعجرهم وبجرهم، بل مسألة "في إطار اتفاقية الشراكة الأورومتوسطية"، وفهمكم كفاية!
إننا في "مرصد نساء سورية" نؤكد أن المجتمع المدني السوري هو مجتمع يضم كافة أنواع التنظيم المجتمعي المستقل عن الحكومة (والمستقل عن الحكومة لا تعني المعادي لها، ولا تعني انقطاع العلاقة معها)، متضمنا ذلك الـ 1750 جمعية المسجلة في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، والمنظمات والجمعيات غير المرخصة. ونؤكد أن إعلان مثل هذا المنبر، دون أن يكون قد جرى التحضير له على مستوى عدد مقبول من هذه المنظمات، وبحيث يضع النقاط على الحروف فيما يخص قضايا وهموم المجتمع المدني السوري (وليس المجتمع المدني وفق رؤية هذه "الشراكة" أو تلك! وليس وفق جمل عامة مطاطة لا تؤدي إلى أي معنى)، وبشكل علني يسمح لكل إنسان في سورية ان يكون له صوته ومشاركته، أو على الاقل يسمح لكل إنسان في سورية أن يكون على اطلاع في وقت مناسب على ما يجري، هو إعلان مرفوض قطعا. ويمثل جرا للمجتمع المدني السوري إلى ساحة ليست ساحته، واستغلاله لأهداف قد لا تكون ملائمة.
كما أن أي إعلان يتسمى باسم "المجتمع المدني" السوري، لا يتضمن بنودا واضحا عن ما يجري الحديث عنه، والتزامات واضحة، هو أيضا ليس إلا استغلال لهذا المجتمع. والأمر نفسه ينطبق على أي إعلان عام من هذا النوع لا يؤكد صراحة دون لبس الموقف النهائي من قضية العنف ضد المرأة والطفل في سورية.
ويهمنا التأكيد، ختاما، أن "انزعاج" العديد من المنظمات السورية العاملة في مجالات المجتمع المدني، متضمنة المنظمات المعنية بقضايا المرأة، من انتقاداتنا العلنية السابقة، هو انزعاج غير مبرر بإطلاق. فقد سبق أن قلنا مرات عدة أن المجتمع المدني السوري بات في وضع لا يحسد عليه نتيجة عوامل عدة يقف على رأسها صمته المطبق على فساده الخاص، وتقصيره الخاص، ومشاكله الخاصة. وأنه لمن المعيب فعلا أن نتكلم باسم الشفافية والعلانية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. ونوجه الانتقادات للحكومة حول كل ذلك، ثم نغرق نحن في غياهب ما ننتقده! أو نلجأ إلى الأساليب الشخصية في تبويس اللحى والضحك على الناس!
فما دمنا قد قلنا عن أنفسنا أننا "مجتمع مدني" فهذا يعني أننا قد وضعنا أنفسنا في موضع الفاعلين/ات في قضايا تخص الناس. وهذا يعني بداهة أن كل ما لدينا هو ملك الناس. ولا يمكن بالطبع أن يتفق مصطلحي "مجتمع مدني" و"عمل سري"! فهما متناقضان تناقض الموت والحياة. أي أن فتح ملف واقع المجتمع المدني السوري هو أمر بات حاسما في خروج هذا المجتمع بمنظماته من النفق المظلم العفن الذي تعيش فيه.
وبما أن أغلب تلك المنظمات لديها منابرها الإعلامية الخاصة (مواقع الكترونية) فإن بإمكانها المشاركة في هذا الملف بالطريقة التي تراها مناسبة. إلا أن صمتها العلني، ولجوء بعضها إلى أسخف وأحط الوسائل الأخرى، لا يمكن أن يؤدي إلى شيء. فكل ما لا يقال علنا لا يعنينا ولا يهمنا. بل لا وجود له أصلا.
من جهة أخرى، وردا على ملاحظات وتعليقات وصلت إلينا "من تحت الطاولة" تعليقا على الافتتاحية التي وجهنا فيها انتقادات للمجتمع المدني، ووصلت إلى حد اتهامنا بخدمة "المخابرات" لأننا نقول رأينا علنا! فإننا نوجه دعوة مفتوحة لكل من لديه رأي فيما قلناه إلى المشاركة في هذا الحوار علنا، بدلا من اللعب المرفوض بتلك الطريقة. كما نوجه دعوة مفتوحة لعقد اجتماع علني، يحضره من يشاء، ويشارك في النقاش فيه المنظمات فقط، لنفتح كل شيء علنا، ولنتحاور حول واقعنا الخاص، وحول مشاكلنا الخاصة بكل صراحة، ودون خوف.
*- المنظمات والهيئات غير الحكومية السورية المشاركة بتأسيس المنبر السوري للمنظمات غير الحكومية:
1- لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية
2- مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية
3- الرابطة السورية للدفاع عن حقوق الإنسان
4- اللجنة الكردية للدفاع عن حقوق الإنسان في سورية
5- لجنة الدفاع عن الصحافيين في سورية
6- المنظمة الكردية للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامة في سورية (داد)
7- الهيئة السورية لشؤون المرأة والطفل
8- المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان في سورية
**- بالطبع لم ينسى "الإعلان" أن يقول: "وسيعمل المنبر على دعوة أوسع عدد من جميع المنظمات والهيئات غير الحكومية في سورية, على اختلاف مجالات أعمالها وتوجهاتها أو تخصصاتها إلى جانب العديد من الشخصيات الفاعلة و المؤثرة, و التي تحمل رؤى ومواقف تتعلق بقضايا التنمية و الإصلاح ,للمشاركة في هذا المنبر ودعمه وتفعيله". لكننا نعتقد أن هذه الجملة ليست إلا ذرا للرماد في العيون، لأن ذلك لن يحدث إلا على طريقة هذه المنظمات التي بتنا نعرفها جيدا، ونرفضنا كليا.
(1)- الجملة بالأحمر كانت قد سقطت سهوا عند نقل المقتبس من البيان. فالمعذرة.
- افتتاحية مرصد نساء سورية، (المنبر السوري للمنظمات غير الحكومية: "من وين لوين"؟!)