منذ الأيام الأولى للأزمة السورية حذرنا، في افتتاحيات مرصد نساء سورية، من الأخطار المترتبة على استخدام الأطفال في النشاط و التجييش السياسي، والذي يعتبر انتهاكا لحقوقهم بصفتهم قاصرين عن فهم وتحمل مسؤولية أي نوع من العمل السياسي. وأشرنا خصوصا إلى استخدامهم في الشارع، سواء منه المؤيد للنظام أو المعارض له، وأشرنا مرات عدة إلى حقيقة استخدامهم من قبل الكبار بوضعهم في أماكن الخطر، بل حتى باستخدامهم في بعض النشاطات غير الآمنة.
إلا أن الوضع اليوم قد تفاقم سوءا بشكل كبير، شأنه في ذلك شأن الأزمة السورية كلها. فاستخدام الأطفال منذ أشهر عدة لم يعد يقتصر على المظاهرات، بل إن بعض الجهات الإرهابية التي تعمل على تدمير الوطن قد أعلنت مرات عدة عن تشكيل "كتائب عسكرية" مشكلة من الأطفال حصرا، إضافة إلى حقيقة أن الميليشيات نفسها تعتمد بهذا القدر أو ذاك على الأطفال ليس فقط في أعمالها العكسرية اللوجستية (المراقبة والرصد، إشغال أجهزة الدولة..)، بل كحملة سلاح مقاتلين في صفوفها أيضا، (أخذا بالحسبان الفهم القانوني السوري والعالمي للطفل، أي كل من لم يتجاوز 18 من عمره).
ويشكل إعلان تلك الميليشيات عن تشكيلها الكتائب الخاصة بالأطفال إعلانا صريحا وواضحا لحقيقة برنامجها الاصولي الظلامي الذي لا تشكل مفاهيم مثل الحرية والمدنية وحقوق النساء وحقوق الطفل.. إلا مفاهيم "غريبة وعدوة" يجب تدميرها وتدمير كل من يعتقد بها. فالطفل عند هذه الميليشيات هو واحد من "جنود الله" الموعودين بالحور الحين إذا حمل السلاح إلى جانبهم وقاتل من يعتبرونه عدوهم!
وكانت تلك المليشيات الإرهابية، من القاعدة وحتى عملاء ما يسمى بـ"مجلس اسطنبول"، مرورا بأخوان المجرمين والسلفية الجهادية والوهابيين، قد عبرت بوضوح سابقا عن رؤيتها الظلامية تجاه الأطفال حين أحرقت ودمرت المدارس، وأجبرت طلاب مدارس أخرى على النزول إلى التظاهر بشعارات معادية للنظام، ووزعت منشورات طائفية ظلامية تهدد كل "ولي أمر" يسمح لابنه/ابنته بالاستمرار بالدراسة!
كما أن معلومات كثيرة متقاطعة تؤكد أن بعضا من المجموعات الإجرامية الناشطة على الساحة السورية اليوم تعمل على اختطاف الأطفال وقتلهم بهدف الإتجار بأعضائهم البشرية، إضافة إلى استخدامهم في الإعلام الظلامي عبر تصويرهم كضحايا لعمليات الجيش السوري المقدسة في حماية وطننا سورية من سيطرة هذه المجموعات الإجرامية.
الأكثر خطورة في الواقع، على المستوى الاستراتيجي والحقوقي، أن جهة واحدة ممن تتسمى بأسماء "المعارضة"، لا داخلية ولا خارجية، إضافة إلى الشخصيات "المعارضة" التي لا تنمض تحت واحدة من تلك الواجهات، لم ترفع الصوت بشكل جدي لفضح وإدانة هذا العمل الإجرامي بحق مئات آلاف الأطفال السوريين! بل إن يشارك الميليشيات الإجرامية جريمتها، سواء بوعي أو بدون وعي، عبر استمراره بالصمت على هذه الانتهاكات، أو تبريرها، أو حتى مشاركة تلك المجموعات الإجرامية تضليلها بأن هؤلاء الضحايا هم ضحايا لعنف النظام!
فمن الغريب كيف ينسجم أشخاص يدعون العلمانية والعقلانية والمدنية (ولن نذكر أسماء هنا)، ويدعون الانتفاض ضد ديكتاتورية وعنف النظام من أجل وطن ديمقراطي ومدني، كيف ينسجمون مع ما يقولوه فيما هم صامتون عن هذه الجرائم التي تمارسها الميليشيات المسلحة؟ بل يبررونها أحيانا؟ رغم أن بعضهم ما زال يردد عبارات لا تدل على شيء قدر دلالتها على استهتاره بسورية وطنا ودولة وشعبا، واستهتاره بأدنى مفاهيم الحقوق، مثل أنه "ليس في سورية ميليشيات مسلحة إرهابية"، أو مثلما قال أحدهم مؤخرا "حركة شعبية ناهضة بمواجهة نظام ديكتاتوري"؟! إذ يبدو أن "الحركة الشعبية الناهضة" في عقل هؤلاء تتضمن الحق باغتصاب الأطفال وتقطيعهم وبيع أعضائهم واستخدامهم في المعارك العسكرية وجعلهم دروعا بشرية و....
إلا أن الدولة السورية، بحكومتها وأجهزتها المختلفة، لم تفعل كل ما يجب من أجل حماية هؤلاء الأطفال، رغم أنها فعلت الكثير من أجل ذلك.
ومن أهم ما قصرت به هذه الدولة نذكر نقطتين مهمتين: الأولى: هي فصل كل من يعتقل لأسباب أمنية (كالتظاهر أو حمل السلاح أو مساعدة المسلحين..)، عن المعتقلين الكبار. واعتقالهم في ظروف مناسبة للأطفال، مع تأمين كل ما يمكن من كوادر اختصاصية في علمي النفس والاجتماع لمساعدتهم على تجاوز الآثار المدمرة التي تركتها في شخصياتهم تلك التشويهات التي زرعها المجرمون الإرهابيون.
والثانية: هي إعطاء الأولوية الأطفال من الذين اضطروا للهجرة من بيوتهم بسبب العنف الشديد الناجم عن إصرار الميليشيات الإرهابية على القتل والتدمير، واضطرار الجيش السوري إلى مواجهتها لمنعها من الاستيلاء على أي منطقة (وهو هدف أساسي منذ بدأ الإجرام المسلح، كي يتم إعلانه "منطقة محررة" تشكل موطئ قدم لجلب الاحتلال الأجنبي إلى وطننا). وإعطاء الأولوية لهؤلاء لا تعني فقط تأمين احتياجاتهم المعيشية الأساسية، على أهمية ذلك، بل إطلاق حملة وطنية واسعة النطاق ممولة من الحكومة وتتمتع بكل الحرية المناسبة لكي تستنفر الطاقات المجتمعية من جميع الاختصاصات، سواء للعمل على مواجهة آثار العنف الذي شهدوه (ضمنا اضطرارهم إلى ترك بيوتهم)، أو العمل على تأمين دراسة سلسلة لهم، أو نشاطات ومساحات مناسبة للعبهم.
ومما يؤسف له بشدة حقيقة أن أغلب "النخب المثقفة" في المجتمع المدني السوري، قد تورطت في لعبة التحريض والتسييس والتجييش تحت مسمى "الحرية" أثناء عملها مع الأطفال! فباتت، من حيث لا تدري، جزءا من حلقة الإرهابيين في تجييش الأطفال واستخدامهم في معاركهم الظلامية في سورية.
إلا أن أولوية هذين البندين لا تقلل من أهمية أن حماية الطفولة في سورية هو واجب مقدس للدولة السورية، ويقتضي اتخاذ الدولة السورية إجراءات حاسمة وصارمة ضد كل من يستخدم الاطفال في المعارك السياسية. ويكون ذلك بـ:
1- منع وجود أي طفل تحت سن 16 سنة في أية مسيرة مهما كانت آمنة. ومعاقبة ولي أمره في كل مرة يثبت فيها تورطه في مشاركة الطفل في المسيرة. يتضمن ذلك التوقف عن استخدام طلبة المدارس في المسيرات سواء المؤيدة للنظام، أو المعارضة للإرهاب والإجرام.
2- توقف الإعلام السوري نهائيا عن استخدام الأطفال في الريبورتاجات التي تهدف إلى إظهار النقمة على الإرهابيين.
3- توقف الإعلام السوري عن ترويج مشاهد الأشلاء المبعثرة نتيجة العمليات الإرهابية، فهي تصل إلى كل بيت، وتضرب، أول ما تضرب، عقل ونفسية الطفل.
4- اعتبار كل من أيد أو شجع أو بارك أو برر، بأية وسيلة عامة كانت، وبضمنها وسائل الإعلام المحلية أو الإقليمية أو الشخصية (شبكات التواصل الاجتماعي)، وجود الأطفال في "الكتائب المسلحة" للقوى الإرهابية، أو وجودهم في المظاهرات، أحد المتاجرين بالأشخاص، واعتقاله والتشدد في معاقبته وفق عقوبات قانون مكافحة الإتجار بالاشخاص، بعد ثبوت أن استخدام الأطفال على هذا النحو تنطبق عليه كافة مواصفات "الإتجار بالأشخاص".
5- تخصيص أماكن اعتقال وحبس خاصة للأطفال المتهمين بارتكاب جرائم، متضمنا ذلك تخصيص مجموعات من الشرطة مدربة على التعامل مع الاطفال أثناء التحقيق معهم. واعتقال ومعاقبة كل عنصر في السلطة التنفيذية، ضمنا أجهزة الأمن، يمارس أي شكل من التعذيب عليهم.
6- إصدار تعليمات صارمة إلى جنود الجيش السوري، مع الوسائل الإيضاحية المناسبة، بأخذ الحيطة والحذر أثناء أداء مهمتهم المقدسة في مواجهة وتدمير مجموعات الإرهاب المسلح، عبر التركيز المطلق على الكبار بصفتهم هم المجرمين الحقيقين، ومحاولة تجنب الاشتباك مع أي طفل مسلح أو يقدم خدمة للمجرمين المسلحين. فهو، أولا وقبل كل شيء، ضحية من ضحايا المجموعات الإرهابية تلك.
7- استنفار الكادر الصحي والمدني (الجمعيات) في مجالات الطفولة والصحة النفسية، للتعامل الفوري مع الأطفال ضحايا الإجرام، سواء كانوا ممن تم تجنيدهم لدى الإرهاب، أو كانوا هم أو أهاليهم ضحايا للعمليات الإرهابية، أو كانوا ممن صادف عيشهم في المناطق التي تعرضت إلى الاشتباكات المسلحة بين قوى الجيش السوري ومجموعات الإرهاب المجرمة. فهؤلاء بأمس الحاجة الفورية إلى المساعدة الجادة والمثابرة.
8- اعتقال وتجريم كل سوري وسورية يقوم بنشر صورة أي طفل عبر وسائل الإعلام المختلفة، ضمنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عندما تتضمن الصورة أو التعليق الخاص بها أي نوع من التوجيه السياسي، أو الاستغلال السياسي، إضافة إلى العسكري، واعتباره مجرما جنائيا، وإعمال المحاكمة الغيايبة بحقه إذا كان خارج سورية. وسواء كان ذلك النشر بهدف تأييد المجرمين أو مواجهتهم، أو تحت أي شعار أو هدف كان.
إن الإرهاب الذي يضرب اليوم سورية، تقوده وتنفذه مجموعات أصولية إجرامية لا تعتقد أصلا بحقوق الطفل الدولية، بل تعتبر الطفل مجرد نتيجة ثانوية لشهواتها الجنسية المريضة، ومجرد خادم عبد لتصوراتهم المنحطة التي يسبغون عليها ألوانا دينية.
وبالتالي، فإن ضرب هذا الإرهاب بالقوة العسكرية هو أمر ضروري لحماية الطفولة في سورية، ولحماية الوطن ككل، إلا أنه غير كاف. إذ يجب أن تكون حماية الطفولة متعددة المستويات، شاملة تلك النقاط التي ذكرت أعلاه..
أطفال سورية هم مستقبلها، وواجب الدولة السورية المقدس حمايتهم من أي استغلال أو انتهاك لحقوقهم، وأولها حق الحياة، خاصة بعد أن تخلى المثقفون "المدنيون" عن واجبهم هذا، بل انتهكوه بتبريرهم هذا الاستقلال المجرم.
الافتتاحية، بسام القاضي: مؤسس ومشرف مرصد نساء سورية، على الدولة السورية أن تحمي أطفالنا من الإرهابيين،