يعتقد الكثيرون أنّ الاتّجار بالأشخاص يتمّ عبر اختطاف الضحايا وسرقة الأطفال، ونقلهم إلى دول أو أماكن أخرى، وإن كان هذا صحيح إلا أنّ الصحيح أيضاً، أنّ الكثير من ضحايا الاتّجار يتمّ نقلهم من بلدهم الأصليّ بمحض إرادتهم بعد تنظيم عقود معهم، للعمل مثلاً في بلدان أخرى، وهناك يتمّ استعبادهم واستغلالهم بعد حجز وثائقهم الرسمية ومنعهم من وسائل الاتصال كافّة، فالفتاة "روز" مثلاً امرأة من الفلبين، من عائلة فقيرة، أرادت السفر إلى الخارج ككثير من الفلبينيين الآخرين، لكسب المال قصد دعم عائلتها، فقصدت وكالة التوظيف التي نظمت لها عقد عمل كمدبّرة منزل في بيروت لقاء مبلغ 600 دولار في الشهر.
وفور وصولها إلى بيروت سُلّمت إلى ربّ عملها مع وثائقها القانونية، فقام بنقلها إلى الفيلا التي يقيم فيها مع زوجته وأولاده، حيث تسلّمت عملها وغرفتها لكنّها لم تتسلّم وثائقها.
بداية مُنع عليها الخروج من الفيلا مطلقاً، لكنها لم تشعر بأنّ الموضوع مهمّ، إلا عندما بدأ ربّ عملها يتحرّش بها، فقامت بإعلام زوجته بالأمر على أمل أن تحميها منه، لكنّ الذي حصل أنّ الزوجة أبت تصديقها وبدأت تسيء معاملتها سواء بالألفاظ النابية أو حتى بالضرب، الأمر الذي شجّع الزوج على التمادي في سلوكه، ومن ثمّ اغتصابها وإذلالها كلّما سنحت له الفرصة.
ولأنّ روز لا تجيد لغة البلد الذي تعمل فيه، ولأنها لا تملك وثائقها القانونية، ولأنّها ممنوعة من الخروج أو الاتّصال بالخارج، فقد بات من المستحيل عليها التوجّه إلى أيّة جهة لطلب المساعدة والحماية، بل بات من المستحيل عليها إنهاء عقدها المحدّد بثلاث سنوات. ولأنّها ترفض الاستسلام للاغتصاب والعبودية والإذلال، فقد قرّرت أن تكتب كلّ ليلة قبل نومها على قصاصات ورقية -بلغتها الأمّ- طلبا للنجدة، بحيث تخفي هذه القصاصات في ثيابها لحين تتسنّى لها الفرصة فتقوم بإلقائها من إحدى نوافذ الفيلا.
مضت أشهر على هذا الحال دون أن تفقد الثقة بأنّ ثمّة شخصا ما سيقرأ إحدى هذه القصاصات وسيساعدها، وحدث فعلاً أن تعطلت سيارة شخص ينقل أطفاله إلى مدارسهم، فنزل منها يحاول إصلاحها، في حين نزلت الخادمة الفيليبينية وبدأت تسلّي الأطفال لحين انتهاء والدهم من عمله، وقد رأت الخادمة بمحض الصدفة تلك القصاصات على الأرض، وبدافع الفضول فقط التقطت إحداها وبدأت تقرأ ما جاء فيها، وعندما انتهى سيّدها من عمله أعطته تلك القصاصة وأخبرته ما جاء فيها، فما كان منه إلا أن توجّه إلى الأمن العامّ في بيروت مع خادمته حيث شرح لهم ما تقوله الخادمة وما جاء في القصاصة، وعندها بادر الأمن العام بالتعاون مع منظمة "الكاريتاس" بالتوجه على الفور إلى الفيلا المقصودة، وبالتحقيق مع الفتاة وربّ عملها، وبعد الكشف الطبّيّ عليها تبيّن صحة ما جاء بأقوالها.
فأحيل كل من صاحب الفيلا وزوجته إلى القضاء بتهمة إساءة المعاملة والاسترقاق والاغتصاب. أما "روز" فقد تمّت مساعدتها على تجاوز هذه المحنة من قبل مختصّين، كما حصلت على تعويض مادّي كبير عمّا لحق بها من أضرار جسدية ونفسية قبل مغادرتها بيروت في رحلة العودة إلى الوطن.
ومع أنّ "روز" لم تصل إلى بيروت نتيجة احتيال أو اختطاف وإنما بمحض إرادتها، ولم تعمل في الفيلا رغماً عنها، وإنما بناء على عقد عمل وقّعت نسخته الأولى في بلدها الأمّ وبلغتها، إلا أنها عُدّت ضحية من ضحايا الاتّجار بالبشر، وتمّ التعامل معها على هذا الأساس، لأنها ومنذ وصولها بيروت حُرمت من وثائقها الرسمية وغدت سجينة داخل أسوار الفيلا، وسُلبت إرادتها ومورس عليها الأذى والإذلال والاغتصاب، مثلها مثل الرقيق.
ومع أنّ هذه القصة ليست فريدة من نوعها، فثمّة الكثير من القصص التي تروى عما يتعرّض له خدم المنازل والعمال وغيرهم من الأجانب، وما يكابدونه من اضطهاد وإذلال وسوء معاملة تهزّ الضمير الإنساني. ولا يصل إلى أسماعنا سوى القليل منها، لكن حتى هذا القليل كان كافيا لتحريك المجتمع الدولي وتصدير الاتفاقية الدولية لمنع الاتجار بالأشخاص، والتي دخلت حيز التنفيذ في 29 / 9 / 2003 والبروتوكول الملحق بها، والذي دخل حيز التنفيذ أيضاً في 25 /12 /2003، حيث صادقت عليهما معظم دول العالم، باعتبار أن جريمة الاتجار بالأشخاص جريمة منظمة وقذرة، تنتشر في العالم برمّته، وتنمو بسرعة كبيرة. وتقوم هذه الجريمة على تجنيد أشخاص أو نقلهم أو إيوائهم أو استقبالهم بواسطة التهديد بالقوّة أو استعمالها، أو غير ذلك من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال السلطة أو استغلال حالة استضعاف، أو بإعطاء أو تلقّي مبالغ مالية أو مزايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على آخر لغرض الاستغلال. ويشمل الاستغلال كحدّ أدنى استغلال دعارة الغير وسائر أشكال الاستغلال الجنسي أو السخرة أو الخدمة قسراً أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرقّ أو الاستعباد أو نزع الأعضاء للاتجار بها. كما يعتبر تجنيد طفل أو نقله أو إيواؤه أو استقباله لغرض الاستغلال اتجاراً بالأشخاص.
في هذا الإطار يشير السيد بينوار لاتشي، رئيس مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات ومنع جريمة الاتجار بالبشر: إلى أنّ "هذه الجريمة هي أسرع أشكال الجريمة المنظمة نموا، وأن سوق الاتجار بالبشر هو من أكثر الأسواق عالمية على الأرض، وأنه ليس هناك دولة في العالم بمنأى عنها في الغالب" .
فالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعاني منها المجتمعات، وما تخلفه من فقر ويأس وقمع للأقليات، وعدم المساواة في فرص العمل، كل هذا عُد مرتعاً خصباً للاتجار بالأشخاص.
وعُدت الكوارث الطبيعية والنزوح القسري والحروب بما تخلفه من يتامى وأطفال شوارع وأرامل، منهلاً للاتجار بالأشخاص، إذ غالباً ما يتم استغلال هذه الظروف واختطاف الأطفال أو أخذهم من دور الأيتام، وهذا ما رأيناه إثر الزلزال المدمر الذي ضرب تاهيتي مطلع هذا العام، إذ نشطت على الفور عصابات الاتجار بالأطفال، وقد تناقلت وكالات الأنباء خبر نجاح السلطات المحلية في إحباط محاولات عدة لتهريب العشرات من الأطفال وإخراجهم من البلاد، سواء بوثائق رسمية أو بدون وثائق على الإطلاق.
كما عُد الفقر والجهل والتخلف أسباباً رئيسيةً في تفشي وانتشار هذه الجريمة، حيث مستويات التعليم شبه معدومة، وفرص العمل شبه نادرة، وهذا الأمر كثيراً ما يوقع الأهل ضحايا خداع المتاجرين بالأشخاص، والآمال الوهمية التي يطرحونها، إذ يسلمون أبناءهم بطيبة خاطر وهم يعتقدون أن في تبني أطفالهم من قبل عائلات بديلة لهم في أوروبا أو أمريكا، سيتيح لهم ثقافة وعلما ومستقبلا أفضل. دون أن يدركوا فداحة خطئهم، ومن هنا يمكن القول أن نقص المعرفة وعدم اهتمام السلطات المحلية بنشر الوعي حول هذه الجريمة ومدى خطورتها، وسبل الخدع والاستغلال التي يمكن لأعضاء الشبكة ممارستها على الضحايا أو ذويهم، كل ذلك يجعل من السلطات المحلية شريكاً في الجريمة.
وبالذرائع نفسها، وبطرق مشابهة يتم اختطاف الفتيات من تلك المناطق، أو اقتناصهم بعد أخذ موافقة ذويهم، بذريعة الزواج أو بذريعة تأمين عقود عمل لهم في دول مضيفة. عقود تبدو صحيحة في ظاهرها، لكنها في حقيقتها عقود وهمية، وهناك يتم سلب وثائقهن القانونية واحتجازهن بدون طعام أو شراب وتعذيبهن، وقد تُباع الواحدة منهن أكثر من مرة قبل الوصول إلى البلد المقصود، وفي أحياناً كثيرة يتم اغتصابهن لدفعهن إلى العمل في الدعارة، أو التعري في الملاهي الليلية، أو حتى كخدم في المنازل، تحت التهديد بالقتل أو بالتشويه أو بإعلام أهل الضحية بطبيعة عملها الحالي.
ويمكن اعتبار العادات والتقاليد التي تميز بين الجنسين، بما في ذلك الزواج القسري، شكلاً من أشكال الاتجار، لما تمثله من عبودية واسترقاق للمرأة، بموجبها يبيح العرف أو القانون للأب أو الولي حق التصرف بالمرأة وبيعها لمن يدفع الثمن المطلوب، وما على المرأة إلا القبول والطاعة، دون أن يكون لها حق الاعتراض على هذا الزواج المرتب، أو على الزوج المالك أو على طبيعة الحياة الزوجية وعلاقاتها، فتنتقل المرأة إلى مكان إقامة جديد تعيش فيه حياة ظاهرها زوجة وأم وباطنها قهر وضعف وخزي، بل وكثيراً ما تتعرض للضرب أو الاغتصاب، مثلها مثل أية ضحية من ضحايا الاتجار، رغم أن القانون الدولي لم يؤكد- حتى الآن- على اعتبار هذه الحالة جريمة اتجار بالأشخاص.
وكثيراً ما تؤدي التطلعات الشخصية إلى الوقوع في شرك المتاجرين بالأشخاص، خاصة عند الأقليات المضطهدة التي تعاني انتهاكا لحقوقها المدنية والقانونية، فترى في الهجرة حياة أفضل ومجتمعاً أحسن، لكن لا تلبس أن تكتشف أنها غدت ضحية من ضحايا الاتجار، وبأنها مقيدة بقيود لا فكاك منها.
لا شك أن الاتجار بالأشخاص ينصب بالدرجة الأولى على النساء والأطفال، ليس فقط لكونهم أكثر الفئات المستضعفة في المجتمع، بل لأنهم عماد هذه التجارة، ومصدر رئيسي للربح المادي، من خلال دفعهم للقيام بكل ما هو غير قانوني، بدءاً من الدعارة وبيع الأعضاء البشرية وانتهاءً بالعمل الجبري أو ممارسة الأعمال الشبيهة بالعبودية، ورغم صحة هذا الكلام في العموم، إلا أنه كثيراً ما يكون الرجال أيضاً عرضة لعمليات الاتجار بالأشخاص، حيث تعمد العصابات إلى خداع الرجال بعقود عمل وهمية في الخارج، ولدى وصولهم إلى بلد المقصد، تمارس العصابات ضدهم كافة صور الانتهاكات الحقوقية والإنسانية بدءاً من حجز وثائقهم الرسمية، وتهددهم بالإساءة لزوييهم، وتمنع عنهم أجورهم، وتقيد حركتهم وتمنعهم من العودة، وذلك لإجبارهم على العمل مقابل القليل من القوت والنقود إما كجنود في الجيش، أو كعمال سخرة في مقالع الحجارة، أو في الأعمال الخطرة كالعمل في معامل التعدين أو المناجم أو الصيد تحت الماء، وإما للاستفادة من بيع أعضائهم لاحقا. ومن البديهي القول، أن عمليات النقل هذه ما كانت لتتم لولا مساعدة وحماية المتواطئين القائمين على حراسة المعابر والحدود والموانئ.
أكّد ذلك جان فيليب شوزي، مدير الإعلام بمكتب منظمة الهجرة الدولية في بروكسيل، لوكالة انتر بريس سيرفيس حيث قال:"إنّ الاتجار بالأشخاص يمثّل تجارة عالمية ضخمة تتعامل بمليارات الدولارات، ويقدّر عدد ضحايا هذه التجارة ببضعة ملايين كلّ عام. وهو يعتقد أنّ نحو 800 ألف مفقود من رجال ونساء بيلاروسيا وحدها، يعملون في روسيا ضدّ إرادتهم…". كما أكّدت منظمة العمل الدولية في تقريرها بداية عام 2009 أنّ "عدد الرجال ضحايا هذه التجارة في كلّ من بيلاروسيا وأوكرانيا بلغ ما نسبته 28،3%". وتؤكّد المنظمة أنّ 98% من ضحايا الاستغلال التجاري الإجباري للجنس هم من النساء والأطفال، ويتعرّض حوالي 3 مليون إنسان في العالم للاتجار بهم، بينهم 1،2 مليون طفل. ويتم الاتجار بطفلين على الأقلّ في الدقيقة للاستغلال الجنسيّ أو للعبودية، كما ينقل ما يتراوح بين 45- 50 ألف من الضحايا إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنوياً.
ويضيف شوزي بأنّ أرباح استغلال النساء والأطفال جنسياً تقدر ب 28 مليار دولار سنوياً، كما تقدر أرباح العمالة الإجبارية بـ32 مليار دولار سنويا".
من هنا يمكننا القول إنّه رغم كلّ جهود المنظمات الدولية، عالمياً وإقليمياً ومحلياً، ورغم كلّ التحضّر والحضارة التي تعيشها المجتمعات الغربية، فإنّ استمرارية هذه الجريمة عبر التاريخ، وتجذّرها عبر شبكات امتدّت لتشمل دول العالم أجمع، فيه تأكيد على استمرارية تغاضي الحكومات المحلية عن معالجة أزمات مجتمعاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية، الأمر الذي ساهم في تأمين الغطاء الاجتماعي وربما القانوني أيضاً لهذه الجريمة وللناشطين فيها. وبهذا يصبح التساؤل مشروعاً عن مدى جدية وفعالية المنظمات الدولية، ومدى وتأثيرها تاريخياً على صناع القرار للقضاء على هذه الجريمة. والتي هي بلا شك من أخطر الجرائم على مستوى العالم، لدرجة دفعت البعض إلى اعتبارها ثالث أخطر جريمة في العالم بعد جريمتي المخدرات والسلاح، خاصة وأن نتائجها الكارثية تنعكس على المجتمع كما تنعكس على الفرد الضحية، ففضلا على فقدان الضحية لحقوقها القانونية بعد تجريدها من وثائقها الشخصية وحجزها، وفقدانها لحقوقها الإنسانية كحقها في الصحة والتعليم والنموّ الجسدي والنفسي، ثمّة افتقادها للأمان، كل ذلك يجعلها ضحية الإحساس بالذل والقهر والعجز، والذي كثيراً ما يدفع بها إلى الانتحار، وفي حالات أخرى قد يدفع نبذ المجتمع لها، إلى رفضها للناس والنقمة على المجتمع.
أما الدولة ومهما كان تصنيفها، سواءً بلد معبر أو بلد مصدر أو بلد منشأ، فإنّها ستصبح بالتدريج عرضة لأنواع مختلفة من الإرهاب والتهريب والجرائم المنظمة، المتعلقة بالمخدرات والقتل والاغتصاب، وهذا بالضرورة سيضع الدولة المعنية أمام مسؤوليات معالجة هذه الآفات على جميع الصُعد: الاجتماعية والأمنية والفكرية مهما كبّدها الأمر من مشقّات وأعباء مادية.
وعليه، لا تكمن خطورة هذه الجريمة في عالميتها فقط، بل تكمن في أنها نتاج النظم الاقتصادية والأزمات الاجتماعية والفكرية والسياسية التي تعصف بالمجتمعات، وتحوّل أفرادها إلى صيد سهل للمتاجرين بالأشخاص، من هنا يمكن القول إنّ تجريم الفعل ومعاقبة كلّ من له علاقة به، سيؤدّي بالضرورة إلى ردع بعض المجرمين، لكنه لا يشكّل خلاصاً من هذه الجريمة، ولن يحمينا من الوقوع ضحايا لها، فالحلّ الأمثل يكمن في محاربة أسباب وجودها وتفشّيها، كالعمل على محاربة الفقر والجهل، ونشر الوعي بهذه الجريمة وتبعاتها بالنسبة للضحية والمجتمع، والعمل على معالجة أزمات المجتمع بكلّ تلاوينها وأبعادها، عبر إعلاء شأن الدستور من جهة والعمل على تكريس المساواة في الحقوق والفرص بين جميع المواطنين بغضّ النظر عن الجنس أو اللون أو الدين أو العمر أو الإعاقة، بهذا فقط، يمكننا محاصرة هذه الجريمة وحماية المجتمع منها.