ما زال المشهد معشعشا في الذاكرة, مشهد اختزل صراع عمر, صراع أبت سعاد الا ان تنتصر فيه لتصبح في نهايته لا امرأة ولا رجل لتصبح انسانا يعي ويفهم ان التسلط عبء يقتل دوما طرفين. منذ ولادتها كانت كثيرة الحركة قليلة الكلام لمعت بين أقرانها لسرعة بديهتها لا لكثرة اجتهادها. اليوم وهي تقترب من عامها الثلاثين تمشي سعاد يوميا الى عملها بخطى سريعة تشبه القفز خطاها تشد الانظار اليها يلمحها الجميع دون ان يلحظو الندبة التي خطت في وجهها, ترمي السلام على كل اهل الحارة, يبادلوها السلام بمحبة راسمين ابتسامة خفيفة تقابل ضحكتها الصباحية المشرقة.
حياة سعاد امتلأت بمشاهد كتلك مشاهد يومية تفاصيل حياة تحمل في طياتها طلاسمنا تنسج تعاريفنا وتحبك عقدنا.. اجهدت نفسها في استعادة تلك التفاصيل, في نكشها من الذاكرة وعيش المها الدفين , وقفت وجها لوجه وذاكرتها ترمي عن كل تفصيل ما اثقلها به من احكام واعباء وتمضي بخفة الى ذكراها التالية تعيد ذات الكرة.. وصولا الى "هيي" كما "هيي" كما ينبغي ان تكون لا تعرفها مواقف ولا يصنعها اخرون. ابو سعيد كان تقليديا في كل شيء نموذجيا على مقياس ريختر للمجتمعات, اكثر ما اسعده هذه الايام هو ارساله ابنه البكر سعيد ليتعلم في بلاد الغربة فالكل يسأله اليوم عن سعيد:) ماشاءالله كيف سعيد؟ لو انك زوّجته يا ابو سعيد قبل ما يتغرب..) سعادة ابو سعيد وضحكته العريضة تذكر سعاد باجازاتها والعائلة حيث يكثر ابو سعيد من الضحكات هو الفخور باخذ عائلته الى اجمل الاماكن التي تسمح امكاناته ووقته بها, في ايلول الذي بلغ فيه سعيد وسعاد العاشرة صحبهما ابو سعيد الى حديقة الحيوان الذائعة السيط ذهلت سعاد كعادتها بكل شيء فهي منذ صغرها منذورة للذهول دارت بين الالوان ترقب الحيوانات المختلفة تلتمس وحشيتها الساكنة وتلمح في عيونها رغبة غير خافية بالانقضاض, من دوامتها ايقظها صوت ابو سعيد يصرخ: )تعوا تفرجوا تعوا تفرجوا( ركض سعيد وسعاد الى احضان الوالدين حيث علت قهقهات ابو سعيد ففي قفص القرود يبدو ان مشاجرة عمت ارجاء القفص وتجمع القردة الصغار في احد زوايا القفص يرقبون القرد الذكر ينقض على انثاه ويوسعها ضربا... بسعادة رمى ابو سعيد احدى نكاته معلنا ان الرحلة اكتمل تميزها بهذا المشهد: (رجال !!!), تبعت ضحكته قهقهات سعيد وضحكة خجولة من ام سعيد وحدها سعاد لم تفهم لم ضحك الجميع. مواقف ومشاهد مختلفة كتلك عبر نشأتها عكفت على اخبارها من تكون , من يتوجب عن تكون وشكلت تصورا ستجهد نفسها طويلا في محاربته عن معنى الذكورة وجوهر الانوثة, عن دورها وحدودها, السقف الذي ينبغى ان تقبع في ظله بينما ينهمك الاخرون في جلب رزقها وصوغ حياتها.. قلة كلامها اوحت دوما بانها في نطاق السيطرة, الا ان تلك المساحة من الصمت كانت مرتع لافكار وتساؤلات عرفت انها ستحيلها الى مختلفة في يوم من الايام. طوال سنين الصوت الذي شق هدوء الحياة كان مشادة لا تنتهي بين سعاد ووالدتها فالاخيرة لم تفهم من اين اتت سعاد بهذه الافكار, اين اخطأت في تربيتها, ما الذي فاتها ومن اين جاءت ابنتها بتلك القوانين؟ ومتى تعلمت ان لكل سؤال جواب ولكل تصرف تبرير ولكل قانون اختراق, كل صراع بينهما انتهى بذات النغمة: (انت بدك تخربيلي بيتي ).. كانت سعاد تسعد بتلك المشادات بل وتفتعلها, كانت تبالغ بما تستطيع ولا تعكف تصر ان لا وجود لما لا تستطيع. فتلك المشادات عدى عن كونها متنفسا لجأت اليه فقد كانت طريقها الى كسر الحدود واعادة تعريفها, طريقا في نهايتها امتلكت حدودها الخاصة واحلامها الخاصة. سعيد هو الاخ التوأم لسعاد, كان فرح ابويهما عارما يوم ولدا, رغب ابو سعيد بعائلة اكبر الا ان تعقيدات رافقت ولادتهما منعتهما من الانجاب مجددا, ابو سعيد احب زوجته ورضي بنصبيهما وكان يحمد الله ان الامر حدث وفي العائلة صبي. تلك الراحة بوجود الصبي والتي يبدأ بها مشوار من التمييز بدءا من الفرحة الاكبر مرورا بحقوق اكثر انتهاءا بميراث اكبر اشعل في سعاد عدائية تجاه الذكورة التي يحتفى بها منذ الولادة حتى الممات هذه العدائية اخرجت سعاد من عباءة التمييز الى حرية المطلق فالحق مطلق والحقوق مطلقة والتساوي مطلق. علاقة سعيد وسعاد مرت بمراحل مختلفة كانا قريبين عندما كانت العائلة دوما معا يتشاركان العديد من الامور اليومية كان سعيد لا يبخل على اخته بتوصيلة او دعوة لطيفة الى العشاء.. ابتعد سعيد عنها كما عن العائلة عندما احب غالية...
وعد السواح، زاوية "حكاية سعاد"، (التغيير.. من سراديب المجتمع الى عواصف الحرية)