المستقبل: أملٌ نؤمن بقدومه، غدٌ ننتظره ليحدث الأجمل، نرسمه مشرقاَ، نحلم به وردياً، نخاف عليه، ونخاف منه، ونعمل جاهدين سعياَ للأفضل، ونتخذ جميع الاحتياطات ما استطعنا لعدم وقوع الأسوأ.
في كل المستويات وعلى جميع الصُعد، فردية كانت أم أسرية، مجتمعية، أو مؤسساتية، وعلى مستوى الدول أيضاً، تنمو بذرة المستقبل في الأطفال، بذرة كما نزرعها سنجنيها، ومنذ نادى جان جاك روسو(1712 – 1778) "ادرسوا الأطفال فأنتم لا تعرفونهم" عملت كثير من الأبحاث للكشف عن هذا العالم المتكامل الذي ينبئ بالصورة التي سيكون عليها مجتمعه، نعم فالأطفال مرآة المجتمع، يجسدون مستقبله ويحددون الصورة التي سيكون عليها حسبما يربيهم هذا المجتمع ويبذل جهداً ليفجّر طاقاتهم الخلاقة وقدراتهم الكامنة على الإبداع وتحقيق الذات بأفضل السبل. وقد أثبت الأبحاث والدراسات العلمية أن الطفولة هي المرحلة الأهم من مراحل النمو عند الإنسان، لذلك فإن تأثير مرحلة الطفولة يمتد حتى النضوج وينعكس في تفكير الإنسان البالغ وفي سلوكه وخبراته في الحياة، لذلك فإن تكاتف واتفاق الجهات المسؤولة عن رعاية الأطفال بشكل مباشر أو غير مباشر وفق رؤية علمية موحدة هدفها الإنسان الفاعل المقبل، يؤدي لخلق جيل متوازن سليم نفسياُ، يدرك ذاته، ويبدع في حياته وفق طاقاته وإمكاناته التي تم العمل على تنميتها ورعايتها منذ الصغر.
سنبحث هنا في الطرق المناسبة لإعداد وتربية الأطفال بطريقة يصبح فيها العبور إلى المستقبل المنشود حلماً يتحول إلى حقيقة. دعونا في البداية نحدد مفهوم الطفل ونعرّفه:
الطفل لغة: هو الصغير من كل شيء، وكلمة طفل تطلق علي الذكر والأنثى، والجمع أطفال، والمصدر كلمة طفولة. (مختار الصحاح، لسان العرب) والطفولة: هي المرحلة من الميلاد حتى البلوغ (المعجم الوسيط).
في 20 نوفمبر عام 1989 أبرمت الأمم المتحدة اتفاقية حقوق الطفل وعرّفته على أنه: كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره ما لم يبلغ الرشد قبل ذلك بموجب القانون المطبق عليه.
وفقاً لهذه التعريفات قسمت الطفولة إلى مراحل متعددة ومختلفة سنستخدم هنا تقسيماً عاماً يشمل جميع المراحل العمرية للأطفال:
- المرحلة الأولى: من عمر 0 (لحظة ولادة الطفل) وحتى 6 سنوات (مرحلة ما قبل المدرسة)
- المرحلة الثانية: من عمر 6 سنوات وحتى سن البلوغ الجنسي (المدرسة في الحلقتين الأولى والثانية)
- المرحلة الثالثة: من عمر البلوغ الجنسي وحتى بلوغ سن الثامنة عشر (المراهقة) (المدرسة في المرحلة الإعدادية والثانوية)
إذا أمعنا النظر في هذه المراحل الثلاث لوجدنا أنها تختلف فيما بينها بخصائص وسمات تميز كل مرحلة من حيث:
مراحل النمو المختلفة.
الصعوبات والمشكلات الشائعة في كل مرحلة.
ولكن إذا فهمنا آلية النمو في كل مرحلة نستطيع الالتفات إلى متطلبات هذا النمو التي تُعتبر تلبيتها من أهم العوامل الأساسية المساهمة في تربية الطفل تربية سليمة وإعداده ليكون فرداً فاعلاً في المجتمع الإنساني، يجدر بنا أن نذكر أنّ إهمال متطلبات أحد أنواع النمو يؤدي إلى خلل واضح في هذا النمو وينعكس بالضرورة على بقية مراحل نمو الطفل، وبالرغم من الاختلافات الكبيرة بين كل مرحلة عمرية وأخرى، إضافة للفروق الفردية بين الأطفال في المرحلة العمرية الواحدة إلا أن مسارات النمو واحدة عند جميع الأطفال ومن أهمها:
النمو الجسدي: ويشمل التطورات التي تظهر على ملامح الجسم الظاهر كالطول والوزن والنمو الهيكلي، والتغيرات الطارئة على أنسجة وأعضاء الجسد منذ الولادة وصولاً إلى مرحلة النمو الجنسي عند المراهقة، وتمتد إلى ما بعدها حتى النضج الكامل. ولهذا النمو متطلبات متعددة تبدأ من الغذاء المتوازن إلى التمارين الرياضية، والألعاب المساهمة في بناء النسيج العضلي وتقوية الجسد، إلى جانب ضرورة فهم الطفل نفسه لهذه المتغيرات ومعرفته قيمتها ومشاركته في أن تأخذ مسارها بالشكل الصحيح، مثلاً الطفل الذي يرفض شرب الحليب وأكل البيض يجب أن يُدرك الآثار المترتبة على ذلك، وبطريقة محببة تجعله يشارك حتى معنوياً في بنائه الجسماني ويسعى لتقويته، وكذلك المراهق الذي تبدأ ملامح البلوغ بالظهور عنده، يجب توعيته وبطريقة علمية لما يحدث معه تخفيفاً لاحتمالات الاضطرابات النفسية نتيجة هذه التغيرات وهو ما ندعوه بـ (التربية الجنسية) وهي أحد الجوانب الهامة والغائبة في مجتمعنا.
النمو الحركي: وهي زيادة نضج الجهاز العصبي، واقتراب النسب الجسمية إلى النضج، حيث أنه يبلغ في سن الرابعة 40% من النضج العام الذي يصل إليه الإنسان في سن العشرين، وهي فترة نمو سريع نسبياً تزداد فيه قوة العضلات وتنمو مهارات جديدة. فالطفل لا يتعلم المشي فقط وإنما أصبح بإمكانه الجري والقفز، وغير ذلك من المهارات الحركية التي تندرج تحت القواعد الاجتماعية كغسل اليدين، السلام والتحية، إن أهم متطلبات هذا النمو هو اللعب الذي يجب أن يتحقق بدرجة كافية تضمن نمواً سليماً معافى للطفل، ولكن ما يحدث أحياناً أن يشكو الأهل والمعلمون وخاصة في مرحلة التعليم الأساسي، من الحركة الزائدة للأطفال على أرض الواقع وهذا من الأخطاء الشائعة (في حال لم تكن الحالة مرضية كفرط الحركة والنشاط الزائد الذي يتم تحديده وفق تحاليل ودراسة طبية خاصة وله علاجه الخاص) فالأطفال بحاجة للعب والحركة لتنمية عضلاتهم ومهاراتهم إضافة أن ذلك ينعكس في:
النمو العقلي والمعرفي: حيث تبدأ المهارات العقلية بالتشكل عند الطفل منذ نعومة أظفاره كالتعرف على الأشخاص والتذكر والانتباه وظهور مهارات حل المشكلات ومهارات التفكير العليا والإبداع، وهنا لابد من الإشارة إلى معدل الذكاء العام الذي يغذيه زيادة الخبرات والمعارف والمؤثرات البيئية المختلفة، وتبدأ الفروق الفردية بالظهور بشكل واضح، وهنا تجدر الإشارة أن تنمية المهارات والمواهب منذ بداية ظهورها عامل ضروري وأساسي لتبلور شخصية الطفل وتكوين وعيه الخاص بذاته وثقته بنفسه، وهذا من أهم المتطلبات عند الطفل.
النمو الانفعالي: ويشمل هذا الجانب التغيرات الطارئة على نمو الانفعالات المختلفة وكيفية الاستجابة لها وردود الأفعال حيالها كالحب والغيرة والغضب والخوف والكآبة، ولهذا النوع من النمو العامل الأكبر في تحديد نموذج شخصية الطفل وما سيكون عليه في المستقبل، هل هو شجاع أم متخوف؟ أهو أناني ومحب للسيطرة أم متعاون ومشارك وعنده روح الجماعة؟ هل يقبل النقد الإيجابي أم متوتر بشكل دائم وقلق وهذا ما يظهر كثيراً عند المراهقين، إن من أهم متطلبات النمو الانفعالي هو تعليم الطفل التعبير عن انفعاله وعدم كبته، وتشجيعه على النقد الفعال وقبول انتقاد الغير بدون زعزعة ثقته بذاته، التي يجب دائماً أن يقبلها ويعمل على تأكيدها بطرق صحيحة.
النمو الاجتماعي: تظهر هنا آثار عملية التنشئة الاجتماعية، حيث تكبر الدائرة المحيطة بالطفل من المنزل حتى الروضة وصولاً للمدرسة وجماعات اللعب والزملاء في النوادي وغيرهم من الأشخاص المؤثرين في شخصية الطفل سلباً أو إيجاباً حسب البيئة التي يتواجد بها الطفل وتلبي احتياجاته فيندمج معها وينصهر فيها، ويحدث أحياناً أن يستغرب الأهل ظهور بعض السلوكيات الغريبة لدى الطفل عما هو معهود في منزلهم، كالعدوانية أو تلفظ مفردات غير مرغوبة من قبله بعد عودته من المدرسة أو اللعب في مكان ما ويرفضون تصديق ذلك أحياناً، وكثيراً ما يبدأ المراهق بالتأثر بسلوك رفاقه فالفتاة المراهقة مثلاً تبدأ بوضع مستحضرات التجميل مثيرة دهشة وغضب والديها أحياناً، والفتى المراهق يبدأ بالتدخين متمثلاً وجهة نظر رفاقه بالرجولة وإثبات الذات، إن أهم متطلبات النمو الاجتماعي تتمثل في تحقيق الوسط الاجتماعي الملبي لاحتياجات الطفل والداعم نفسياً له ولكن بشكل علمي ومدروس حيث يؤدي الطفل في هذا الوسط دوراً فاعلاً يمارس فيه هواياته ويحقق ذاته، يكتشف بنفسه ويميز بين الخطأ والصواب ويختار بملء إرادته بعيداً عن الرقابة القامعة للكبار.
إن تنوع واختلاف المشكلات المترافقة مع كل مرحلة من المراحل العمرية يؤدي بالضرورة إلى تنوع وسائل وطرق حلّها للوصول إلى السلوك المرغوب والذي يجب أن ينسجم بالضرورة مع السمات الشخصية لكل طفل والفروق الفردية بين الأطفال، فقد يحتاج طفلان أخوة في أسرة واحدة إلى نموذجين تربويين مختلفين حسبما يتفق مع مزاجيهما وطباعهما وهذا ليس بخاطئ بل على العكس، وهنا نؤكد مقولة أن (لا وصفات جاهزة في تربية الأطفال)، وليست هناك طريقة هي الأفضل، فالوسائل متنوعة ومختلفة وما ينفع في مجال ومع طفل قد لا يجدي مع طفل آخر في مجال وسياق مختلفين! إلا أن الكثير من التربويين يتفقون على مجموعة مبادئ وقواعد أساسية يجب الاستناد عليها لتحقيق نموذج التربية المثالي، ومن أهمها:
المادة 29 من اتفاقية حقوق الطفل: توافق الدول الأطراف على أن يكون تعليم الطفل موجهاً نحو:
- تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية إلى أقصى إمكاناتها.
- تنمية احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية والمبادئ المكرسة في ميثاق الأمم المتحدة.
- تنمية احترام ذوي الطفل وهويته الثقافية ولغته وقيمه الخاصة، والقيم الوطنية للبلد الذي يعيش فيه الطفل والبلد الذي نشأ فيه في الأصل والحضارات المختلفة عن حضاراته.
- إعداد الطفل لحياة تستشعر المسؤولية في مجتمع حر، بروح من التفاهم والسلم والتسامح والمساواة بين الجنسين والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات الإثنية والوطنية والدينية والأشخاص الذين ينتمون إلى السكان الأصليين.
إن أهمية هذا البند من اتفاقية حقوق الطفل إلى جانب جميع بنودها طبعاً تكمن في تركيزه على بناء الطفل لحضور قوي في المستقبل، يراعي فيه هويته وخصائصه ويدعم فيه احترام اختلاف الأخر والتعامل معه على أساس من السلم والتسامح والصداقة، إلى جانب تنمية الإحساس بالمساواة بين الذكور والإناث.
الابتعاد عن العنف: بجميع أشكاله الجسدي والنفسي والفظي، لما له من آثار مُدمّرة على شخصية الإنسان، وهنا نقصد العنف الموجّه نحو الطفل، وكذلك الموجه لمن حوله، أي العنف الأسري أو العنف المدرسي، أو حتى العنف المُشاهد في وسائل الإعلام. فقد أصبح من المعروف والمتفق عليه أن عجز المربين عن امتلاك الوسيلة الصحيحة للتربية يدفعهم للجوء إلى العنف باعتباره الحل الأسهل والأقرب بدون إدراك النتائج بعيدة المدى لهذا العنف، لذلك يُنصح المربون بالاطلاع على أساليب ومبادئ تعديل السلوك العلمية والبدائل التربوية للعقاب وامتلاك مهاراتها الحقيقة لتنفيذها بالشكل الأمثل والذي يحقق الغاية المطلوبة وبطريقة علمية ومدروسة فاللجوء للحلول الأسهل والأسرع يسبب دائماً الوقوع في أخطار لا ندرك نتائجها إلا بعد مرور وقت يستلزم أضعافه لتعديل السلوك والعودة به للمسار الصحيح. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ أطفالنا يكفيهم العنف الموجود في العالم من حولنا والذي يشاهدونه على شاشات التلفزة ولا نملك حياله شيئاً من حروب وتدمير وقتل للأطفال في جميع أنحاء العالم وعلى رأسهم أطفالنا في فلسطين المحتلّة وكذلك العنف الموجه في وسائل الإعلام من خلال المسلسلات والبرامج غير المدروسة والموجهة إلى الأطفال والتي تثير عنده المشاعر العدائية تجاه الأخر وتبعده عن روح التسامح واستخدام لغة الحوار، عدا عن البرامج غير الموجهة للطفل والتي يتابعها مع أهله باعتبارها وسيلة للتسلية وتمضية الوقت غير منتبهين إلى مخاطر هذه "التسالي" المدمرة لشخصية الطفل، ما يثير الاستغراب أن يقوم الأهل أحيانا بشراء ألعاب تثير عدوانية وسلبية في شخصية الطفل ثم يستهجنون سلوكه العنيف تجاه أخوته أو أقرانه بعد كل هذا!
إن الأخطاء الموجودة في سلوكيات الأطفال ما هي إلا نتيجة لأخطاء أكبر ارتكبها الكبار بحقهم.
تقديم النموذج المثالي: باختصار كيف أريد أن تكون شخصية طفلي يجب أن أكون أنا، كيف يطلب الكبار من الأطفال أن يكونوا صادقين ويقومون هم أنفسهم بالكذب أمامهم؟ كيف يُطلب من الطفل أن يقرأ ويحب المطالعة ولا يوجد في محيطه من يمسك كتاباً أو حتى جريدة أو مجلة أحياناً! واستغرب أن يقوم شخص بردع طفل يسلك سلوكاً عدوانياً أو عنيفاً مع أقرانه عن طريق ضربه وتعنيفه! إن هذه الأخطاء الشائعة التي يقوم بها المحيط أمام الأطفال تولد لديهم ازدواجية في المعايير والقيم، وتبعدهم عن التمسك بالمثل الأخلاقية التي يتلوها عليهم الكبار من برج عاجي وينسونها على أرض الواقع، إن الأطفال أشد ذكاء وإدراكاً مما نظنّ، وكثيراً ما نبخسهم حقهم ونقدرهم بأقل ممّا يستحقون، وهذه إساءة يدركونها وتثير سخطهم وغضبهم لكنهم ونتيجة للتربية الخاطئة غير المقصودة أحيانا لا يجرؤون على التعبير أو حتى لا يعرفون كيف يعبّرون، لذلك فإن امتثال النموذج الذي أرغبه في طفلي أسلوب ناجح لتحقيق الهدف، ولنكن صادقين مع أنفسنا دعونا نُقر أن عملية تربية أطفالنا تحمل في طياتها عملية إعادة تأهيل لتربيتنا نحن أنفسنا وهذا جميل وصعب في الوقت ذاته وتحدٍّ قد لا يستجيب له الكثيرون، ولكن إن استجبنا فذلك قد يجعل من هذا النموذج قدوة ومثالاً جميلاً يقتدي به الأطفال من حوله، فكم من الصغار يتمثلون سلوك معلمهم اللطيف والراقي، أو يقلدون حمله للعصا وطريقة صراخه عليهم؟ وبنفس الوقت كم يقلد الأطفال أفعال آبائهم وأمهاتهم ويتمثلون هذه الأفعال سلبية كانت أم إيجابية؟ لذلك علينا الوقوف طويلاً أمام كل سلوك ندعو إليه ولا نمارسه، أو ننهي عنه ونحن نقوم به! كقول الشاعر:
لا تنهي عن فعل وتأتي بمثله عار عليك إذا فعلت عظيم
التعزيز الإيجابي ورفع الثقة بالنفس: وخاصة في الزمان والمكان المناسبين، حيث أن التعزيز وكلمات الاستحسان تحمل في طياتها أثراً سحرياً على الكبار قبل الصغار، من منا لا يُسعد لتشجيع أو كلمة استحسان تقدّر جهداً بذله أحدنا أو تستحسن سلوكاً قام به، فما بالنا بالأطفال! كم يؤدي تعزيز الطفل لفعل إيجابي قام به إلى شعوره العالي بذاته، واحترامه لها وتقديرها وخاصة عندما يقدّره الآخرون في الوقت المناسب عند قيامه بسلوك ايجابي مفاجئ أحياناً وغير معهود منه، إن ردود الأفعال تجاه هذا السلوك تحدّد إمكانية تكراره أو الامتناع عنه كلياً، مثلاً طفل لا يكتب وظائفه عادة وقام بكتابة وظيفته مرّة ما! تعليق الأستاذ السلبي أو الساخر أحياناً أو حتى عدم تعليقه وتجاهله الأمر يثير حسّ الخزي والخجل عند الطفل وتختلف ردود الأفعال حسب شخصية كل طفل، وحسب التوقع الذي بناه لنفسه من هذا السلوك أو غيره، فمنهم من ينطوي على ذاته ومنهم من يفرغ غضبه بسلوك عدواني أو تخريبي بينما يدفع التعليق الإيجابي والمشجع إلى الالتزام بالفعل الجيد مرات أخرى، وخاصة عند إبداع وسائل تعزيزية جديدة للطفل أي ألا تكون كلمات التعزيز والاستحسان عشوائية ومتكررة فتفقد قيمتها ومعناها ويضاف إلى هذه القائمة التعزيز المادي عن طريق زيادة المصروف أو الهدايا وغير ذلك، وجميعنا يلحظ أن الطفل الذي يحصل على ألعاب وهدايا كثيرة في مناسبة أو غير مناسبة يفقد اهتمامه بهذه الهدايا وتصبح بلا قيمة عنده، لذلك يجب أن يعامل التعزيز الإيجابي بمنتهى الحذر حتى يبقى محتفظاً بتأثيره وسحره على الطفل.
تنمية الاستقلالية والمبادرة: حيث يتفق كثيرٌ من الباحثين على أنّ دافع النمو الأساسي هو شعور الفرد بالكفاءة والسيطرة على البيئة، لذا فتنمية هذا الشعور وتحقيقه فعلياً عند الطفل وسيلة أساسية لتحقيق هذا الدافع الذي تلتقي فيه رغبة الآباء الطبيعية مع رغبة الأبناء التلقائية ليكون هدفاً مشتركاً، ولكن ما يحدث أحياناً هو الخطأ في اختيار (الوقت المناسب) لذلك فالأهل يجب أن يدعموا استقلالية الطفل ويشجعونه على القيام بها بنجاح، مع مراعاة قدرات الطفل ومده بالدعم العاطفي عند اللزوم، والابتعاد عن (التناقض) الذي قد يمارسه الأهل أحيانا بدون أن يشعروا بذلك. مثلاً: يعطي الأهل الثقة للأخت الكبرى (وهي طفلة) بأن ترعى أخوتها الأصغر سناً وتقوم بعدد من الأعمال بجدارة لإنجاز مهمتها، ويثنى عليها لأنها (كبيرة وعاقلة) من وجهة نظر الأهل، هذه الطفلة نفسها تُصادر عندما تريد اختيار ملابسها مثلاً أو الذهاب لزيارة صديقتها، فيصبح تدخل الأهل مبني على أساس أنها صغيرة ولا تعرف ما يناسبها أو لا تعرف مصلحتها! إن خلق لغة للحوار والنقاش في جميع القضايا يساهم في بناء الشخصية المستقلة عند الطفل وهنا أود أن أذكر باختصار نتائج بحث ميداني قامت به بومرنيد عن علاقة الاتجاهات الوالدية من ناحية وخصائص السلوك الاجتماعي من ناحية أخرى، حيث وجدت ثلاثة اتجاهات سائدة بين الآباء وهي:
اتجاه الحزم: حيث يشجع الأهل أطفالهم على ما يجب فعله ويمارسون الضبط عليهم ويتابعون ما ينفذه الأطفال لواجباتهم، بجو تسوده العاطفة والتقبل، لا الرفض والإهمال، إلى جانب تقديم حاجات الأطفال عن حاجاتهم الشخصية في حال التعارض، ويخلق هذا الاتجاه نموذج أطفال يتميزون عن أقرانهم بالاعتماد على النفس والضبط الذاتي والاستقلالية العالية.
اتجاه التسلط: هنا يمارس الأهل ضبطاً متشدداً على الأطفال مع عاطفة أقل حرارة، ودرجة أكبر من الاغتراب والتباعد بالنسبة لأطفالهم.
اتجاه التساهل: يتميز بحرارة العاطفة العالية، ولكن بدون أي ضبط أو دفع ليؤدي الأطفال واجباتهم.
ويخلق الاتجاهان الثاني والثالث نماذج أطفال غير واثقين بأنفسهم، نماذج منعزلة أحياناً، لا يمكن ضبطها ولا حتى الاعتماد عليها. (الأطفال مرآة المجتمع، سلسلة عالم المعرفة ص328).
وعلى هامش ما ذكر لا يمكننا الحديث عن تربية الطفل دون التعريج على موضوع:
حماية الطفل: قد يسأل أحد ما ممّ نحمي الطفل؟ والمراقب الدقيق لما يحدث حولنا يجيب: من كل شيء، من نفسه أحيانا، ومن أنفسنا، من الشارع، ومن المدرسة، من أي شيء قد يتسبب في انتهاك حق من حقوقه أو تعرضه للإساءة أو الإهمال، أو الاستغلال سواء في العمل (عمالة الأطفال) أو الاستغلال الجنسي، إن موضوع حماية الطفل بحث يطول ولكن لابد من التنويه لأهميته وأثره في تحقيق التربية الصحيحة للأطفال.
دعونا نقف عند هذه النقطة لنسأل أنفسنا هنا: من يقوم بتربية الأطفال؟
أهي مسؤولية الأسرة فقط؟ وما هو دور رياض الأطفال والمدارس؟ وما علاقة المجتمع ومؤسساته؟ وما هو تأثير وسائل الإعلام في تربية الأطفال؟
أسئلة كثيرة، لكن الجواب بسيط وصعب في الوقت نفسه، كل ما سبق يسهم في تربية أطفالنا، مساهمة تزرع الرضا حينا وتنشر الخوف والأسى أحياناً أخرى. وإن كان للأسرة الدور الأول والأهم في تربية الأطفال، إلا أن ما يتلقاه الأطفال في المدارس سيُعتبر إما معززاً أو مخالفاً لتعاليم المنزل، إضافة إلى أنّ ما يواجه الأطفال في المجتمع عامة بدأ من الشارع مروراً بالحدائق إن وجدت والنوادي والمراكز المهتمة والمعنية بأنشطة تخص الأطفال بمراحلهم العمرية المختلفة في حال توفرت سيؤدي لتعزيز أو زعزعة قيم تلقاها الطفل في المنزل أو المدرسة، عدا عن الدور الهام والفعال والذي لا يمكن تجاوزه ولا حتى السيطرة عليه في ظل التقنيات الحديثة، الذي تقوم به وسائل الإعلام المتنوعة في عصر تسوده ثقافة الاستهلاك، وتأثيراتها الكبيرة على تربية الأطفال في ظل الأساليب الجاذبة والمتطورة، تلك السمة المميزة لثورة الاتصالات، ودخول الكمبيوتر والانترنيت والموبايل وغير ذلك من التقنيات الحديثة التي تسهم في بناء شخصية الأطفال وتحدد سلوكياتهم وفلسفتهم الخاصة بالحياة المتدفقة إليهم بتناقضاتها وغزارتها وتنوعها، مما يؤدي كثيراً لوقوف الطفل عاجزاً عن تحديد موقفه في الحياة وعن فهم ذاته والتعبير عنها بما يتناسب مع شخصيته وإمكانياته الحقيقة.
يعتقد كثير من العلماء المستقبليين (المؤمنين بالنظرة المستقبلية) بالرهان على الأطفال، وعلى رأسهم عالمة الاجتماع ميرغريت ميد التي تقول: "بدلاً من الشيخ أبيض الشعر منتصب القامة الذي يرمز إلى الماضي والمستقبل بكل فخامتهما واستمراريتهما يجب أن يكون الجنين في رحم أمه هو رمز ما ستكون عليه الحياة"
وإن كان على الأطفال سابقاً التعلم من الكبار، إلا أنّ ما يحدث ومنذ فترة طويلة أن الشباب والأطفال هم من الذين يؤثرون على الكبار بشكل أو بآخر، تقول ميد "علينا أن نخلق نماذج جديدة للبالغين الذين يستطيعون تعليم أطفالهم لا ما سيتعلمون، بل كيف يتعلمون، وليس ما يجب عليهم أن يلتزموا به، بل قيم الالتزام، فالثقافات ما قبل المجازية والتي ركزت على الشيوخ والمسنين وهم الذين تعلموا أكثر الأشياء واستطاعوا القيام بمعظم ما تعلموه، هي أساساً نظم منغلقة تكرر الماضي باستمرار، وعلينا الآن أن نتحرك نحو إيجاد النظم المفتوحة التي تركز على المستقبل، وبالتالي على الأطفال ذوي القدرات غير المعروفة تماماً والذين يجب أن تترك خياراتهم مفتوحة" (المستقبلية، ت محمود فلاحة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1994، ص 256
*- قدمت هذه الورقة في محاضرة بالمركز الثقافي بدمشق، أبو رمانة، 10/2010
علياء أحمد، (تربية الأطفال والعبور إلى المستقبل)