تسمع كثيراً أن أحدهم خاض أو حاول خوض تجربة ٍ ما (دراسة - سفر – عمل – خطبة – زواج.. إلخ..) ومُنيَ بالفشل، فيعزو سبب أو أسباب فشله إلى ما يطلقون عليه الحظ والنصيب أو مشتقاتهما التي أحْسبُ أنها تجاوزت المحدود كقولهم:
.. شو بدك تساوي هك الله – بعدي اسمو – بدو.
أو عوضك على الله.
أو المكتوب عل جبين لازم تشوفو العين.
أو حظ عطيني وبالبحر رميني.
أو زت هالطينة على هل حيط إن ما لزقت بتعلم.
أو الفشل بداية النجاح (ونقصد هنا الاستخدام المجتمعي لها)
والقائمة تطول........!
نلاحظ أن المشتق اتخذ أشكالاً عدة، بعضها ذو طابع ٍ ديني ميتافيزيقي
(موروث ديني)، وأخر أخذ شكلَ مثلٍ شعبي (موروث شعبي)، أو مزركشاً على صيغة حكمة ٍ (مأثورة) أفقدها المجتمع – باستخدامه الخاطئ – مأثوريتها وأفرغها من محتواها ودلالتها.
مهما يكن من أمر، فالثقافات الموروثة - كما يبدو – على أشكالها تقع.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذا المضمار هو الآتي:
لماذا لا نربط العلة بالمعلول، والسبب بالمسبب؟
لما لا نكون منطقيين حتى بالنسبة للأمور التي تخص ذواتنا؟
تجد أحدنا يتجاهل – وهو بصدد تقييمه لنكسةٍ أو حتى نكبةٍ ألمَت به – الظروف المحيطة وكيفية معالجته لها، والتي تتحول بالمحصلة إلى مقدمات ينطلق منها دون دراية وصولاً إلى النتيجة المرجوة التي تتحدد - ذهنياً – اعتماداً على قراءةٍ خاطئة لوقائع ملموسة، يتمخض عنها فشلٌ ذريع ثم تجده يلقي باللائمة على سوء طالعه وحظه المقيت، أو يجد من يتبرع له - وهم كثر- ليبرر عنه تحت عنوان الحظ والنصيب.
ربما تجد تفسيراً جزئياً في لغة علم النفس التي تشير إلى آلياتٍ ومكنات يستخدمها المرء ليخفف من وطأة ما حدث، كالتبرير والإسقاط.
هذه المكنات تبقى لوحدها سلاحاً وهمياً متجرداً من الحقيقة، لا يَقنعُ بها المرء في قرارةِ نفسه.
هذه الآليات النفسية اللاشعورية عندما تتقاطع مع الموروث (الديني – الشعبي) تتحول إلى كوابح يعجز المرء عن كسر أغلالها، فتبقى النتيجة بالنسبة إليه أمراً طبيعياً.
ولكن لماذا يتحول هذا الاندماج (آليات لاشعور+ موروث) إلى قنبلة هيدروجينية تكبح جِماح الفرد عن القيام حتى بعملية سرد بسيطة لتفاصيل وجزئيات روايةٍ هو كاتبها وبطلها والشخصية المحورية فيها.
الآليات اللاشعورية التي كشف عنها مؤسس مدرسة التحليل النفسي سيغمونْد فرويد تمثل قاسماً مشتركاً بين جميع البشر، وهذا أمرٌ طبيعي لا خلاف عليه.
ما المقصود بالطبيعي؟
المقصود بالطبيعي: المتوافق مع الطبيعة، وبعبارةٍ أدق المتوافق مع المنطق والعقل السليمين، وبعبارةٍ أكثر دقة المطابق لقوانين العقل.
ما هو غير طبيعي هو الموروث الذي صنعه البشر عبر تاريخهم الطويل، هذا الموروث الدوغمائي بكل تفرعاته (الديني – الشعبي) الخاص بمجتمع بعينه، تراه يطغى على أفراده، فيشل إراداتهم.
هذا الموروث الذي نهلنا منه فنوناً عديدة منذ نعومة أظافرنا، حتى تجذرت فينا كجذر الظفر في اللحم، منها على سبيل المثال لا الحصر: النوم على طريقة النعامة، وضع العربة أمام الحصان، العودة إلى المربع الأول، والتبرير السافر الغير منطقي... والقائمة تطول أيضاً على عدد مشتقات الحظ والنصيب.
إن هامش الحرية الفردية لدينا ضيقٌ للغاية، ذلك أنه – أي الفرد – يرى بعين الجماعة، ويفكر على طريقة العقل الجمعي، هذا العقل الذي يحدد - بناءً على المرتكزات المشار إليها آنفاً – درجة الوعي الاجتماعي في لحظةٍ تاريخية معينة.
تزداد المعضلة سوءاً عندما ندرك أن الفرد قد تشرب من إناء الموروث حتى الثمالة، فتراه يبرر النتيجة التي توصل إليها في أمرٍ يخص مصالحه بشكلٍ مباشر، وهو راضٍ تمام الرضا لما اقترفته يداه مختزلاً كل ما حدث بكلمة ٍ موجزة: حظ - نصيب - قدر... إلى ما هنالك من هذا الكلام.
أجل... هي لعنة المجتمع على الفرد.
أود أن أنهي بحكايةٍ رواها لي رجلٌ خمسيني حَللتُ ضيفاً عليه منذ أيام معدودات:
لم يكمل الرجل العشرين من العمر، كان قد أنهى دراسته الثانوية بفرعها العلمي فحصل على منحة إلى بلغاريا الشيوعية حينذاك، في اختصاص هندسة الصرف الصحي، إلا أن العائلة رفضت فكرة السفر إلى هذا البلد، وكان السبب باختصار: حتى ما ينتزع الولد ونخسرو...!
لم أُصب بالذهول من موقف عائلةٍ محافظة في ثمانينيات القرن الماضي، لكن الذي أدهشني هو موقف الرجل بعد مرور ثلاثين عامٍ على الحادثة، حيث أجاب على أسفي على ضياع الفرصة، وبصيغة الرضا الكامل، وبإجابةٍ جدُ مقتضبة، وبهدوءٍ ينم عن موروثيةٍ حتى النخاع، أجابني بكلمةٍ واحدة: نصيب...!
أجل... هذه صورة الفرد عندما يفكر المجموع.