يبدو أن صفة العدوانية والميل إلى العنف هي من أكثر سمات عصرنا بروزاً، الحروب والتهديد بالإرهاب، حرص وسائل الإعلام على استعراض مشاهد القتل والدم كل هذا يدفعنا إلى محاولة فهم أصول العدوانية في النفس البشرية وإلقاء الضوء على بعض النظريات التي حاولت تفسيرها.. علما أن ذلك منسجماً مع طبيعة الهواء الذي يتنفس فيه الجميع في العالم.
عرفت العدوانية بحسب معجم المصطلحات التحليل النفسي أنها:
مجمل النزعات التي تتجسد في تصرفات حقيقية أو هوامية، وترمي إلى إلحاق الأذى بالآخر وتدميره وإذلاله.. وقد يتخذ العدوان نماذج أخرى غير الفعل الحركي العنيف والمدمر إذ ليس من هناك من تصرف سواء كان سلبيا "كرفض العون مثلا" أم ايجابيا "كالسخرية مثلا" لا يمكنه إلا أن ينشط كسلوك عدواني.
أعطى التحليل النفسي أهمية متزايدة للعدوانية من خلال تبيان فعلها المبكر جدا في نمو الشخص، ومن خلال الإشارة إلى العملية المعقدة لاتحادها أو انفصالها عن الجنسية. يصل هذا التطور في الأفكار ذروته في محاولة البحث عن أرضية نزوية وحيدة وأساسية للعدوانية من خلال فكرة نزوة الموت(1).
يشيع الرأي القائل بان فرويد لم يعترف بأهمية العدوانية إلا في مرحلة متأخرة جدا حيث يتساءل فرويد لماذا احتجنا كل هذا الوقت الطويل قبل ان نحزم امرنا ونعترف بنزوة العدوانية؟ ولماذا ترددنا في استخدام وقائع كانت بديهية ومألوفة لكل الناس، في وضع نظرياتنا؟" يستحق هذان السؤالان اللذان يطرحهما فرويد هنا أن يفصلا عن بعضيهما في الواقع، فإذا كان صحيحا أن فرضية "نزوة العدوان" المستقلة التي قال بها ادلر منذ عام 1908 قد رفضت من قبل فرويد زمنا طويلا، إلا انه من غير الصحيح القول بأن النظرية التحليلية النفسية رفضت قبل 1920 أن تأخذ التصرفات العدوانية بعين الاعتبار.
وقد وصف فرويد في زمن مبكر المقاومة بطابعها العدواني: "...يصبح الشخص الذي كان إلى تلك اللحظة في غاية الطيبة والوفاء، فظا، زائفا ومتمردا ومتلاعبا.." ويرى في حالة "دورا" شطر من تحليل حالة هستريا أن تدخل العدوانية بشكل سمة خاصة من العلاج التحليلي النفسي: "..أما في التحليل النفسي فيجب على العكس من ذلك إيقاظ كل الحركات حتى تلك العدوانية منها، واستخدامها في التحليل من خلال تحويلها إلى مستوى الوعي" فمنذ البداية، بدت النقلة "Transfert" عند فرويد كمقاومة، وتقود هذه المقاومة في الشطر الأكبر منها إلى ما اسماه نقلة سلبية " 1
يقول فرويد "تفرض علينا الممارسة العيادية الفكرة القائلة بأن الميول العدائية تحتل أهمية بالغة في بعض الإصابات "العصاب الهجاسي، والعظام على الأخص" وحتى الدعابة حيث يصرح أن هذه "...حين لا تكون غاية بحد ذاتها أي بريئة لا يمكن إلا أن تخدم واحدة من نزعتين فإما أن تكون "دعابة عدائية" (تستخدم في العدوان وفي النقد اللاذع، وفي الدفاع) أو أنها "دعابة فاحشة" ..."
يتحدث فرويد بهذا الصدد عن "نزوة عدائية" وعن "نزعة عدائية".
وأما نزوة(2) العدوان pulsion d aggression فهي تدل بالنسبة إلى فرويد على نزوات الموت باعتبارها متوجهة نحو الخارج يتلخص هدف نزوة العدوان في تدمير الموضوع.
ومع أن تحليل هانز الصغير قد بين بجلاء أهمية ومدى النزعات والتصرفات العدوانية، إلا أن فرويد رفض إتباعها بنزوة العدوان: "لا يمكنني حزم أمري والقبول بنزوة عدوان خصوصا إلى جانب نزوات حفظ الذات والنزوات الجنسية التي نعرفها جيدا ونتعامل معها بقدم راسخة" إذ تصادر فكرة نزوة العدوان بدون وجه حق لصالحها ما بشكل الطابع العام لأي نزوة.
وحين يعود فرويد فيما بعد إلى مصطلح نزوة العدوان في كتابه "ما فوق مبدأ اللذة عام 1920" فإنه يقوم بذلك في إطار النظرية لنزوات الحياة ونزوات الموت.
وإذا كانت النصوص لا تسمح باعتماد استعمال للمصطلح يخلو من أي لبس على الإطلاق أو هي لا تسمح بإقامة توزيع دقيق للتأثير ما بين نزوة الموت ونزوة التدمير ونزوة العدوان إلا أننا نخلص على كل حال إلى أن هذا المصطلح نادرا ما يستعمل بمعناه الواسع جدا والى انه بشير على الأغلب الى نزوة المتوجهة نحو الخارج.
وفي النهاية اكتشفت عقدة اوديب منذ البدء باعتبارها تضافر لرغبات الحب والعداء (حتى إنها قدمت لأول مرة في "تأويل الأحلام" تحت خانة: "أحلام موت الأشخاص الأعزاء" ) أما تفسير هذه الظواهر الفرويدي لنظرية النزوات الأولى يتدرج على عدة مستويات:
أولا: إذا كان يرفض حصر نزوة نوعية وراء هذه النزعات والتصرفات، أي تجيير كون النزوة اندفاعة لا يمكن تلافيها، تتطلب من الجهاز النفسي بعض العمل، وتطلق عقال الحركية وبهذا المعنى تتطلب النزوة لتحقيق أهدافها حتى ولو كانت "فاترة" أي (أن يكون المرء محبوبا، أو يكون مرئيا) نشاطا قد يستدعي التغلب على بعض العوائق "كل نزوة هي قطعة من نشاط"(3)
ثانياً: من المعروف أن النزوات الجنسية كانت تتعارض مع نزوات حفظ الذات في نظرية النزوات الأولى تتلخص وظيفة نزوات حفظ الذات بشكل عام في الحفاظ على الوجود الفردي وتوكيده، كان يتم البحث ضمن الإطار النظري عن تفسير التصرفات والرغبات والمشاعر العدائية الصريحة من مثل السادية أو الحقد في تفاعل معقد لهذين النمطين الكبيرين من النزوات تبين لنا قراءة " النزوات ومصير النزوات" انه كان بحوزة فرويد نظرية ما وراء نفسانية عن العدوانية. إذ لا يعدو التحول الظاهري للحب إلى حقد كونه وهما فالحقد ليس حبا سلبيا، إن له مصدره الخاص الذي يبين فرويد مدى تعقيده، ويقول في هذا الصدد بأن "النماذج الأولية الحقيقية لعلاقة الحقد لا تصدر عن الحياة الجنسية بل عن صراع الأنا من اجل بقائه وتوكيده".
ثالثاً:في مجال حفظ الذات، يخصص فرويد النشاط الذي يهدف إلى السيطرة على الموضوع، إما على شكل وظيفة، أو حتى على شكل نزوة مستقلة (نزوة السطوة) ويبدو انه يضمّن من خلال هذه الفكرة نوعا من الحيز الوسيط ما بين "النشاط" البسيط الذي يمت بالطبيعة إلى كل أنواع الوظائف، وبين النزعة إلى التدمير من اجل التدمير. نزوة السطوة هي نزوة مستقلة، ترتبط بجهاز خاص "هو الجهاز العضلي" وبمرحلة محددة من التطور هي "المرحلة السادية- الشرجية" ولكن من ناحية أخرى ".....فإنها لا تكترث تجاه الإساءة إلى الموضوع أو القضاء عليه" إذ لا يظهر أخذ الآخر آلامه بعين الاعتبار، إلا في الارتداد المازوشي، أي في الفترة التي لا تعود فيها نزوة السطوة متميزة عن الإثارة الجنسية التي تحدثها.
ومع وضع نظرية النزوات الأخيرة، أخذت العدوانية تلعب دورا أكثر أهمية، وتحتل مكانة مختلفة في النظرية. ويمكن تلخيص نظرية فرويد الصريحة بصدد العدوان على الشكل التالي: "يوضع قسم من (نزوة الموت) مباشرة في خدمة نزوة الجنس، حيث يلعب دورا هاما، تلك هي السادية الفعلية بينما لا يرافق القسم الآخر في هذا التحويل نحو الخارج، بل يظل في الإنسان حيث يرتبط ليبيديا بفضل الإثارة الجنسية التي تصاحبه....، وهنا تكمن المازوشية الأصلية المولدة للغلمة" وغالبا ما يحتفظ فرويد باسم نزوة العدوان لذلك القسم من نزوة الموت الموجه نحو الخارج بفضل الجهاز العضلي خصوصا، وتجدر الإشارة إلى انه لا يمكن أبدا تبعا لفرويد الإحاطة بنزوة العدوان هذه ولا حتى بالنزعة إلى تدمير الذات، إلا من خلال اتحادها مع الجنسية.
غالبا ما يرجع المحللون النفسيون ثنائية نزوات الموت والحياة إلى ثنائية الجنسية والعدوانية، وحتى فرويد يذهب نفسه أحيانا في هذا الاتجاه ذاته وهذا يستوجب عدة ملاحظات:
إن ما يثير فرويد من وقائع في "ما فوق مبدأ اللذة" من أجل تبرير إدخال فكرة نزوة الموت، هي من الظواهر التي يتأكد فيها اضطرار التكرار، الذي لا يرتبط انتقائيا مع تصرفات عدوانية.
وإذا كانت بعض الظواهر تتخذ بالنسبة لفرويد أهمية متزايدة، في مجال العدوانية فهي تلك التي توحي بالعدوانية ضد الذات " الحداد وللسوداوية"، "مشاعر الذنب الواعية"، "الاستجابة العلاجية السلبية" الخ، وكلها ظواهر أدت به إلى الكلام عن "ميول مازوشية غامضة في الأنا"
من وجهة نظر الأفكار موضع البحث، تبعد نزوات الحياة، أو الايروس كثيرا عن مجرد كونها تسمية جديدة لتشمل ما كان يسمى الجنسية سابقاً. فالواقع أن فرويد يدل بتسمية الايروس كونها على مجمل النزوات التي تولد وحدات أو تحافظ عليها مما يجعلها تتضمن في النهاية ليس فقط النزوات الجنسية باعتبار أنها تميل إلى الحفاظ على النوع، بل أيضا نزوات الحفاظ على الذات التي ترمي إلى الإبقاء على الوجود الفردي، وتوكيده.
ويتلازم مع ذلك فكرة نزوة الموت ليست مجرد مفهوم عام يشمل بدون تمييز كل ما كان يعرف سابقا كتجليات عدوانية، أو هذه وحدها فقط ففي الواقع ينتمي جزء مما يمكن أن نسميه صراعا من أجل الحياة فعلياً إلى الايروس، وعلى العكس من ذلك تأخذ نزوة الموت لحسابها، وبشكل قاطع لا شك فيه، ما اعتبره فرويد في الجنسية الإنسانية، خاصا بالرغبة اللاواعية أي: عدم قابليتها لمزيد من التبسيط، وإلحاحها، وطابعها اللا واقعي، وكذلك نزعتها إلى التخفيض القاطع للتوترات، من وجهة نظر اقتصادية.
ويمكن التساؤل حول التجديد الذي طرأ على فكرة العدوانية بعد عام 1920:
أولا: لقد توسع المجال الذي يقر فيه بنشاط العدوانية. فمن جهة يؤدي المفهوم القائل بنزوة التدمير قابلة لأن تتوجه نحو الخارج، وتعود فتتوجه نحو الداخل، إلى جعل تحولات السادومازوشية حقيقية وجد معقدة، قادرة على تبيان العديد من أساليب الحياة النفسية. ومن جهة ثانية، لا تنطبق العدوانية فقط على علاقات الموضوع أو العلاقة مع الذات، بل تسري أيضا على العلاقات بين مختلف الأركان (الصراع ما بين الأنا الأعلى والأنا)
ثانيا: ينسف فرويد من خلال موضعة نزوة الموت في الشخص ذاته أصلا، ومن خلال جعل العدوان على الذات مبدأ العدوانية بحد ذاته، فكرة العدوانية المطروحة تقليديا، ومنذ زمن طويل، كأسلوب من العلاقة مع الآخر، وكعنف يمارس عليه.
ثالثاً: هل تتيح لنا نظرية النزوات الأخيرة أن نخصص في نهاية المطاف العدوانية بشكل أفضل بالنسبة لفكرة النشاط؟ وكما لاحظ دانيال لاجاش ذلك "يبدو النشاط، منذ الوهلة الأولى كمفهوم أكثر اتساعا بما لا يقاس مقارنا بالعدوانية، إذ أن كل العمليات البيولوجية أو النفسية هي أشكال من النشاط فلا تستوعب العدوانية إذا من حيث المبدأ إلا بعض أشكال النشاط".
ولكن، وبالقدر الذي يميل إليه فرويد إلى تركيز كل ما يمت إلى نطاق التصرفات الحيوية في صف الايروس، فإنه يحضنا على التساؤل حول مقومات تعريف السلوك العدواني، ويمكن لمفهوم الوحدة – الانفصال أن يشكل احد عناصر الجواب هنا. فالواقع لا يتضمن هذا المفهوم فقط وجود خليط نزوي بمقادير متفاوتة، بل يشمل أيضا الفكرة القائلة بأن الانفصال هو في جوهره انتصار لنزوة التدمير، بالمقدار الذي تنحو فيه النزوة نحو تدمير التجمعات، وذلك على عكس الايروس الذي يميل إلى توليدها والحفاظ عليها. تصبح العدوانية، في هذا المنظور، بالفعل قوة تفكك وتفتيت. وقد أشارت ميلاني كلاين، على الدور السائد الذي تلعبه النزوات العدوانية منذ الطفولة الأولى، إلى هذه الخصائص "المفككة" للعدوانية.
يسير مفهوم كهذا، مباشرة على عكس تطور معنى المصطلحات المنحوتة في علم النفس انطلاقا من جذر العدوان ففي اللغة الإنجليزية خصوصا يشير كل من اجلش وانجلش في معجميهما باسم "معجم العام لمصطلحات علم النفس والتحليل النفسي" إلى أن تعبير الروح العدائية قد انتهى بفقدان كل مضمون عدائي كي يصبح مجرد مرادف ل "روح المبادرة" و "الحيوية" و "النشاط" وعلى العكس من ذلك لم تخفت قوة مصطلح العدوانية الذي يندرج بشكل أفضل في سلسلة تعابير "العدوان" و "اعتدى"
كذلك صاغ فرويد نظرية التنفيس: إن التعبير عن العدوان يخفف من حالة الغضب الداخلية للمعتدي ومن المستوى العام لتوتره الجسدي. النقطة الأساسية بالنسبة إلى النظرة التحليلية – النفسية هي ترسيخ مفهوم الجهاز الهيدروليكي الذي تسعى فيه "الطاقة العدوانية" بحثا عن شكل من أشكال التفريغ..وهكذا فإن القيام بعدوان مباشر "تفريغ شحنة الغضب" يخدم كما هو مفترض في "تفريغ المخزون" وينتج عن ذلك تخفيف مرافق لمستوى الهياج الداخلي وطبقا للمعيار نفسه إذا ما حيل دون العدوان الصريح على مصدر الإحباط فإن الطاقة العدوانية ستبحث عن قنوات أخرى إما بتحولها إلى أهداف بديلة أو بارتدادها إلى الداخل واتخاذها شكل المازوخية "فالعدوان الذي لا يتم التعبير عنه ينكفئ إلى الداخل على شكل انقباض في النفس وحب لتعذيب الذات" أو الإكتئاب النفسي
اما من وجهة نظر السلوكيين الذين قاموا بتجارب عديدة خلصوا الى نتائج مختلفة فإذا كان
فرويد يرى أن العدوانية هي حصيلة شاملة لغريزة الموت فالرغبة بالتدمير هي الطاقة الطبيعية المنبثقة عن غريزة الموت، وهي الدافع الذي نرى مظاهر له منذ الطفولة بعدئذ إما أن يندمج بالجنس "الايروس" ويوجه نحو تدمير الآخرين أو يوجه نحو تدمير الذات. هذه النظرة للعدوان بوصفه عنصرا لابد منه في تكوين الإنسان عارضها بصورة عامة الكثير من علماء النفس "السلوكيين" إذ يجدوا أن النزعة العدوانية تتشكل نتيجة وجود أنماط خاصة بالوسط الاجتماعي أكثر مما تتشكل نتيجة دافع غريزي واستنادا إلى دراسات تجريبية رأت أن الشخص ذو النزعة العدوانية للمجتمع إنما يخرج من بيئة تتميز بالرفض الوالدي والاضطراب العائلي ونظام المعاقبة وعدم الانسجام. والطفل الذي يعيش في شروط بيئية مثل تساهل الوالدين تجاه العدوان، استخدام نظام العقوبة الجسدية وافتقار الأم إلى تقدير _ الذات يكون بنية نفسية لمراهق عدواني.إذن تركيز العواطف على شكل رغبة في إيذاء الآخر هو نتيجة خبرات مكتسبة بدأت في الطفولة الباكرة." هناك ثلاثة عناصر في بيئة الطفل تؤثر في مستوى سلوكه أثناء المراهقة هذه العناصر هي:
العلاقة العاطفية بين الصبي ووالديه "الدرجة التي تعامل بها الأسرة ابنها بأسلوب العقاب أو التهديد أو النبذ."
الضبط المباشر الذي يمارسه الوالدان على سلوك الصبي "الدرجة التي يرشد بها الوالدان الطفل بأسلوب صارم ثابت"
الجو الذي يسود الأسرة "أي مدى الذي يعزز به الوالدان أو يحط من قيم الآخر وأهميته"
أما الصبية الغير عدوانيون يخرجون من بيت عوملوا فيه بأسلوب عاطفي لا يلجأ إلى العقاب وكانت ترشدهم مجموعة ثابتة من الضوابط وقدمت لهم نماذج من الامتثال الاجتماعي، ورباهم والدان مفعمان بالرضا الذاتي.
فالصبية العدوانيون يمرون بظروف كثيرة غير ملائمة خصوصا للتشبه بوالديهم ولنمو الوجدان لديهم... إنهم يفتقرون للأمان في علاقتهم العاطفية مع والديهم. وبتالي يصبحون خائفين من الارتباط بالآخرين بعلاقة تبعية ومقاومين لها.
أول تقمص يقوم به الطفل يجري غالبا مع شخصية أمه أو من تحل محل أمه لكن يتعين على الصبي في النهاية أن يتقمص شخصية ذكر لكي يؤدي دور الذكر الذي يطلب منه في مرحلة مبكرة من الحياة. والواقع إن مباركة الوالدين المستمرة تتوقف عادة على التغير الناجح الذي يطرأ على عملية التقمص تلك..
من المؤثر جدا على نمو الوجدان عند الطفل قبول الوالد للولد .. أن يكافئه بمحبة، و أن تسود العلاقة الدفء،وان يقضي معه وقتا كافيا لتأسيس الأنماط السلوكية المطلوب محاكاتها.. فالدراسات الميدانية تبين أن آباء الصبية العدوانيين لم يعطوا الوقت الكافي للتعامل العاطفي مع أبنائهم في مراحل الطفولة الأولى وكان أسلوب الضبط يسوده التهكم والسخرية، العقاب الجسدي، الحرمان من الحقوق..وأحيانا يتمنوا لو أنهم لم يوجدوا قط. وقد لوحظ انه في اسر الصبية العدوانيين هناك تمزق في العلاقة العاطفية التي تربط الوالدين بالطفل وهناك تمزقا أشد في علاقة الابن _ الأب مما هي عليه في علاقة
الأم _ الابن. علاقة الإحباط بتمثل الأب
إحدى النظريات البسيطة تقول أن كثيرا من العراكات إنما تحدث نظرا لأنها تعود على الطفل بقدر كبير من الاهتمام وانتباه البالغين، وإذا تذكرنا أن هؤلاء الأطفال كان من الممكن أن يموتوا بكل ما في الكلمة من معنى قبل 3 او 4 سنوات فقط لو أنهم لم يستطيعوا جذب ذلك البالغ "وذلك بالصراخ والبكاء عادة" يمكننا أن نرى إلى أي حد يمكن اعتبار الاهتمام بالطفل مكافأة.
من جهة أخرى حين يلعب الطفل بهدوء، فإن معظم الآباء والأمهات يكونون شاكرين له هدوءه ويتركونه وحده تماما.. ولسوء الحظ إذا كان الاهتمام والإطراء نوعا من المكافأة فعلا فإن الطفل لا يكافأ حين يكون هادئا.
طبقا لنظرية التعلم الاجتماعي نستطيع أن نربي طفلا عدوانيا بمجرد أن يعرض عليه نماذج عدوانية ناجحة ويكافئه باستمرار على سلوكه العدواني
أما لاكان فيعتبر الظهور الأول للعدوانية تظهر في مرحلة المرآة فبعد اكتشاف الطفل لصورته في المرآة والتي تعكس وهي صورة متحركة تعكس ايماآته وحركاته المتعددة فيخالها في بداية الأمر صورة لآخر يحاكيه أو يتماثل به فالتجربة عند القرد تقف عند هذه المرحلة أما عند الطفل فيتبعها تحية تأتي من تدخل الوسيط وعادة تكون الأم.
وفي المرحلة الثانية بفضل تدخل هذا الوسيط الذي يشير بأن هذه الصورة هي صورته هي ملكه وهي هو وهو هي يحصل من جراء ذلك..
وفي المرحلة الثالثة يدخل الطفل بصراع قاتل مع هذا الآخر لكي ينتزع صورته وتحصل عملية قتل لهذا الآخر المحتمل لكي يحل محله.. وفي هذا الصراع الثنائي القاتل تكمن العدوانية الأولى للإنسان أي يدخل إلى المجتمع من باب العداء للآخر وهذه النقطة إن ما توقف عندها الطفل تصبح النواة العدائية لمرض البارانويا.. وفي هذه المرحلة لا يميز الطفل بينه وبين قريبه الآخر: فإذا ضرب عمر زيدا ذهب عمر يشتكي بأنه هو الذي ضرب وهو صادق في تصوراته.
كيف الخروج من هذا المأزق؟ لو بقيت البشرية في هذه المرحلة لأفنى بعضهم بعضا. يقول لاكان هنا نشكر الله بان الإنسان يتمكن من تخطي هذه المرحلة بفضل دخول طرف ثالث وهو اللغة كحقل رمزي يحل النزاع: أي ما هو قتل الآخر يصبح مرمزا بقتل الشيء وهذه اللغة في تدخلها تفتح المجال للاعتراف بالذات وبتميزها عن الآخر دون الحاجة إلى إلغائه وهذا الآخر اللغوي الوسيط سماه لاكان بالآخر الكبير كمكان رمزي تتفسر وتنحل به الرموز اللغوية كلما التقى طرفان متحاوران .ومن هذا المنطلق يمتلك الطفل وتنقله من حال التجزؤ السابقة حيث انه يرى نفسه مجموعة أطراف وأعضاء تتحرك كل منها على حدة دون رابط وتجعله يعيش في فوضى جسدية مكتئبة،
أما ايريك فروم فيتكلم الأهواء القديمة: التدميرية الشديدة للغاية، والتعلّق فائق الحد بالأم، والنرجسية المتطرفة.
ويعني بالتعلق فائق الحد التعلّق الذي أسماه التعلّق الرمزي، أو الذي من شأن المرء أن يطلق عليه بالمصطلحات الفرويديه التعلّق ما قبل التناسلي بالأم. ويعني ذلك التعلّق العميق الذي يكون فيه الهدف فعلاً هو العودة إلى رحم الأم أو حتى العودة إلى الموت .
أما التدميرية فهي ليست التدميرية الدفاعية، التي هي في خدمة الحياة، أو حتى التي هي في الدفاع عن الحياة بصورة ثانوية، كالحسد، وإنما التدميرية التي هدفها الرغبة في التدمير. وقد دعى تلك التدميرية "النكروفيليا" necrophilia إن التعلّق القوي بالأم، والتدميرية النكروفيلية، والنرجسية المتطرفة هي أهواء خبيثة] ـ خبيثة لأنها مرتبطة بالمرض الشديد للغاية ومسبِّبة له. وضد هذه العواطف الخبيثة توجد في الإنسان كذلك العواطف المضادة لها: عاطفة الحب، وعاطفة الاهتمام بالعالم ـ وكل ما يُدعى الإيروس Eros، الاهتمام لا بالناس وحسب، بل كذلك الاهتمام بالطبيعة، والاهتمام بالواقع، واللذة في التفكير، وكل اهتمام فني.
ينتقد فروم ما اسماه الفرويديون وظائف الأنا ـ وإذ يعتقد أنه تراجع يستدعي الشفقة واكتشاف لأمريكا بعد أن اكتُشفت بزمن طويل، لأنه لم يشك أحد من خارج الأُرثوذكسية الفرويديه أبداً بوجود وظائف كثيرة للذهن ليست نتيجة الغرائز بالمعنى الجنسي. إن المرء بهذا التأكيد للأنا قد قام ببعض التراجع عما كان الجانب الأثمن في تفكير فرويد، وهو تأكيد الأهواء. وفي حين أن قوة الأنا هي من بعض الوجوه مفهوم ذو معنى، فإن الأنا هو في أساسه منفّذ الأهواء؛ وهو منفّذ إما الأهواء الخبيثة وإما الأهواء غير الخبيثة. ولكن المهم في الإنسان، وما يحدد عمله، وما يصنع شخصيته، إنما هو أي نوع من الأهواء يحركه. ولتقديم مثال نقول: إن كل ذلك يعتمد على مسألة هل للشخص اهتمام عاطفي بالموت والدمار وكل ما هو غير حي، وهو ما دعوته "النكروفيليا" necrophilia، أم اهتمام عاطفي بكل ما هو حي، وهو الذي دعوتُه "البيوفيليا" biophilia. وكلتاهما عاطفة، وكلتاهما ليست نتاجاً منطقياً، وكلتاهما ليست الأنا. إنها جزء من الشخصية الكلية. وهاتان ليستا من وظائف الأنا. هاتان نوعان للعاطفة.
وهذا هو التنقيح الذي يقترحه فروم فيما يتصل بنظرية فرويد: هو أن المشكلة الأساسية ليست محاربة الأنا للعواطف، بل هي محاربة نمط من العاطفة لنمط آخر من العاطفة.
وبما أننا نتحدث عن الغرائز يخطر ببالنا دموية الحيوان المفترس وشراسته حيث يقول لنا "كونراد لورنز" الذي قام بدراسة معمقة عن عدوانية عالم الحيوان فوجد أن لها وظيفة محددة وهي الدفاع عن المجال الحيوي والبحث عن الغذاء والتوازن الوظيفي،والتزاوج أما الحقد والإذلال للضحية فهي من سمات عدوانية البشر الذي يفسرها "لورنز" بأن مأساة البشر التي تتفجر عنفا وشراسة وحقدا تعود، الى فقدان التكيف النزوي أي فقدان الكوابح الغريزية لعدوانيته، التي حلت محلها الكوابح الخلقية والحضارية..
وهكذا نرى أن العوامل التي ارتقت بالإنسان فوق كل الكائنات الحية، هي ذاتها وضعته في وضعية مليئة بالمخاطر..
*- العدوانية: Agressivite
(1)- نزوة الموت: تتعارض مع نزوات الحياة والتي تنزع إلى الاختزال الكامل للتوترات، أي إلى رد الكائن الحي إلى الحالة الاعضوية. تتوجه نزوات الموت بادئ الأمر نحو الداخل وتنزع نحو التدمير الذاتي، ثم تتوجه فيما بعد ثانويا نحو الخارج وتتجلى عندها على شكل نزوة العدوان او نزوة التدمير. حيث تربط بشكل لا فكاك له كل رغبة سواء أكانت عدوانية أم جنسية، برغبة الموت، باعتبارها تكوّن "أقصى ما هو نزوي".
(2)- نزوة: عملية دينامكية تتمثل في اندفاع "شحنة طاقوية، وعامل حركية" تنزع بالإنسان نحو هدف معين. وتشكل القوة المحركة لنشاط الجهاز النفسي، تنبع النزوة، تبعا لفرويد، من إثارة جسدية "حالة توتر" ويتمثل هدفها في القضاء على حالة التوتر التي تسود على مستوى المصدر النزوي، ويمكن للنزوة أن تدرك هدفها هذا في الموضوع ذاته: أو بفضله.. يتكلم فرويد عن الغريزة حين يصف سلوكا حيوانيا مثبتا بالوراثة، ومميزا للنوع الحيواني، ويكون مجراه مشكلا مسبقا ومتكيفا مع موضوعه.
(3)- هناك محاولات لوصف تكوين العدوانية: إما بجعلها عنصرا ملازما في الأصل، لكل نزوة باعتبار أنها تتحقق من خلال نشاط يفرضه الشخص على الموضوع، أو حتى باعتبارها كرد فعل ثانوي على الإحباط الصادر عن الموضوع.
رولا ابراهيم باحثة اجتماعية، (كيف تعبر العدوانية عن نفسها؟)