ضمن سلسلة المفاهيم الغربية القادمة إلينا يأخذ (الجندر) موقعاً يتميز بإثارة الجدل حوله، وازدياد الفجوة بين المؤيدين والمعارضين اللذين يزداد عددهم في كلّا الجانبين على حدٍ سواء، والسبب هو الغموض الذي يكتنف المفهوم وما يشير إليه، وعدم الاتفاق على صياغة مشتركة تُعرفه وتُقدمه كمفهوم واضح،
ويرجع ذلك لأنه منذ بداية طرحه وحتى الآن مرّ بمراحل مختلفة وتطور عن صيغته الأولى لمعان جديدة باطراد فلم يأخذ قالباً واحداً أو دلالة معينة يكتفي بها، بالإضافة إلى اجتزاء جانب منه من قبل المتطرفين أو المعارضين له وتضخيم الجزء الذي يروقهم على حساب المفهوم ككل، طبعاً كلٌّ بالشكل الذي يخدمه ويحقق غاياته ومصالحه الإيديولوجية.
عُرِّب الجندر إلى مصطلحات عدة منها (الجنس البيولوجي، الجنس الاجتماعي، الدور الاجتماعي، النوع الاجتماعي) وحالياً يستخدم مفهوم النوع الاجتماعي (الجندر) للتعبير عن عملية دراسة العلاقة المتداخلة بين المرأة والرجل في المجتمع، أي الجندر يوضح (العلاقة التي تنشأ بين الرجل والمرأة على أساس اجتماعي وسياسي وثقافي وديني) متضمنة الاختلافات التي يصنعها البشر بينهم على مرّ التاريخ، بلغة أوضح: الجنس Sex يولد به الإنسان بيولوجياً فهو غير قابل للتغيير، أما الـ Gender النوع الاجتماعي قابل للتغيير لأنه يتكون اجتماعياً.. وهنا تبدأ نقطة الخلاف بين الإيديولوجيات المؤيدة والمعارضة، فدعاة مصطلح الجندر يقدمونه على أنه يحمل معنى (تحرير المرأة وتحسين دورها في التنمية) والمعارضين له يعتبرونه مصطلح مستورد مراوغ وخبيث ومطاط يحمل في طياته هدم للبنية الثقافية والأخلاقية والدينية في المجتمع العربي من خلال التغيير الذي يطالب فيه.
لمحة تاريخية:
بدأت حركة تحرير المرأة أو ما يشار إليه الموجه الأولى من النسوية عام 1830، واستمرت حتى عام 1920م، كان هدف المشاركين والمشاركات فيها الحصول على الحقوق المدنية للنساء في مجتمعاتهم؛ فقد اتسمت الحركة بالطابع الليبرالي الهادف إلى المساواة، وأُرخت الموجة الثانية من النسوية بتاريخ 1963، وتميزت هذه المرحلة بانتشار مجموعات النهوض بالوعي في إنجلترا وفرنسا وأمريكا، وبدء إدراج القضايا النسوية في المؤسسات الأكاديمية، وبعد أكثر من مائة عام على انطلاق الحركة النسوية، أخذت مفردة (الجندر) في ثمانينيات القرن العشرين تشق طريقها كأحد أبرز المصطلحات المستخدمة في قاموس الحركات النسوية، وقد ظهر هذا المصطلح في الولايات المتحدة الأمريكية ثم انتقل إلي أوروبا الغربية عام 1988، بالرغم من استخدامه في السبعينيات من قبل "آن أوكلى" التي أدخلت المصطلح إلى علم الاجتماع في كتابها (الجنس والنوع والمجتمع عام 1972 ) لوصف خصائص الرجال والنساء المحددة اجتماعياً في مقابل تلك الخصائص المحددة بيولوجياً موضحة فيه أن كلمة Sex أي الجنس تشير إلى التقسيم البيولوجي بين الذكر والأنثى، بينما يشير النوع Gender إلى التقسيمات الموازية وغير المتكافئة اجتماعياً إلى (الذكورة والأنوثة) إلا أنه ـ مصطلح الجندر ـ لم يشق طريقه إلى المنظمات الدولية إلا بعد عقدين من الزمن تقريباً حيث عُرِّف تعريفات متعددة تغيرت في كل مرة لتوضيح فكرة تدل على المفهوم كما تتبناه الجهة التي تعرفه.
عموماً بدأت المرحلة الأولى بتعريف الجندر: "كمصطلح لغوي يستخدم لتصنيف الأسماء والضمائر والصفات، أو يستخدم كفعل مبني على خصائص متعلقة بالجنس في بعض اللغات وفي قوالب لغوية بحتة". وقد استمر هذا الاتجاه في استخدام المصطلح للاستدلال على جنس الذكر أو الأنثى لحين ظهور الاتجاه الثاني لتعريف الجندر على أنه: "يرجع إلى الخصائص المتعلقة بالرجال والنساء والتي تتشكل اجتماعياً مقابل الخصائص التي تتأسس بيولوجياً (مثل الإنجاب)" ومن هذه الخصائص (الذكورة والأنوثة) باعتبارهما خصائص اجتماعية مبنية على أساس بيولوجي.
فقد ركز التيار الراديكالي في الحركة النسوية على:
1ـ أن الجندر كأدوار ووظائف وعلاقات تتشكل اجتماعياً بعيداً عن أي أثر للبعد البيولوجي، وبالتالي فإنه قابل للتغيير باختلاف الزمان والمكان والثقافة.
2ـ أن الجندر لا يعني المرأة ولا الرجل، ولا يمكن أن ينسب إلى ما هو طبيعي وفطري وثابت.
3ـ أن التغيير الحاصل في إطار الجندر مرتبط باختلاف الثقافة، واعتبار الدين جزءاً من الثقافة التي تتغير من وقت لآخر، وبالتالي استبعاد الأديان عن لعب أي دور رئيس في تشكيل الأدوار وتوزيعها.( وهذه نقطة اعتمد عليها الرافضون للجندر بأنه يسيء للدين ويعتبره غير منصف للمرأة والرجل) على الرغم من إمكانية قراءة مختلفة لهذا الجزء!
عمل تيار الجندر فيمنيزم (Gender Feminism) منذ ظهوره إلى عدم الاعتراف بوجود أية اختلافات مهما تكن اجتماعية أو بيولوجية بين الجنسين، وقد وصل بهم الأمر إلى اعتبار القوة الفيزيائية للرجل ذات منشأ اجتماعي كغيره من الاختلافات الموجودة بين الجنسين؛ مما أدى إلى إعلانهم الحرب على كل ما يتعلق بآثار الاختلاف البيولوجي بين المرأة والرجل، وأصبحت كلمة الجنس غير مرغوب فيها ولو كمصطلح وهذا شكل آخر للتطرف من قبل المؤيدين للجندر حيث أنكر هذا الاتجاه ما يمكن أن يميز الجنسين عن بعض، ولو كان ذلك من خلال التمايزات البيولوجية لكلا الجنسين.
أما صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة ( UNIFEM ) فقد عرف النوع الاجتماعي(الجندر):
أنه "الأدوار المحددة اجتماعياً لكل من الذكر والأنثى، وهذه الأدوار التي تحتسب بالتعليم، تتغير بمرور الزمن، وتتباين تبايناً شاسعاً داخل الثقافة الواحدة، ومن ثقافة إلى أخرى"
أما منظمة الصحة العالمية فقد عرفته على أنه: "المصطلح الذي يفيد استعماله وصف الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصفات مركبة اجتماعية، لا علاقة لها بالاختلافات العضوية".
وعملت الموسوعة البريطانية على تعريف ما سمته بـ (الهوية الجندرية Gender Identity): " إن الهوية الجندرية هي شعور الإنسان بنفسه كذكر أو أنثى، وفي الأغلب فإن الهوية الجندرية والخصائص العضوية تكون على اتفاق (أو تكون واحدة)، ولكن هناك حالات لا يرتبط فيها شعور الإنسان بخصائصه العضوية، ولا يكون هناك توافق بين الصفات العضوية وهويته الجندرية (أي شعوره بالذكورة أو بالأنوثة) وهو أحد التعريفات التي تم الاعتماد عليها في رفض الجندر من قبل المعارضين له واعتباره دعوة للشذوذ الجنسي والانحلال الأخلاقي.
دخل مفهوم الجندر إلى المجتمعات العربية مع وثيقة مؤتمر القاهرة للسكان 1994، إذ أنه ذكر في (51) موضعاً من هذه الوثيقة، منها ما جاء في الفقرة التاسعة عشرة من المادة الرابعة من نص الإعلان الذي يدعو إلى تحطيم كل التفرقة الجندرية. ولم يثر المصطلح أحداً، لأنه ترجم بالعربية إلى (الذكر/الأنثى)، ومن ثم لم يُنتبه إليه.
ثم ظهر المفهوم مرة أخرى ولكن بشكل أوضح في وثيقة بكين 1995، حيث تكرر مصطلح الجندر (233) مرة. ولذا كان لا بد من معرفته والوقوف على معناه من معرفة أصله في لغته التي صك فيها، والتعرف على ظروف نشأته وتطوره الدلالي. فقد رفضت الدول الغربية تعريف الجندر بالذكر والأنثى، واستمر الصراع أياما في البحث عن المعنى الحقيقي للمصطلح، إذ أصرت الدول الغربية على وضع تعريف يشمل الحياة غير النمطية كسلوك اجتماعي ورفضت الدول الأخرى أية محاولة من هذا النوع، فكانت النتيجة أن عرفت اللجنة المصطلح بعدم تعريفه: (The Non Definition of The Term Gender).
أما وثائق مؤتمر روما حول إنشاء المحكمة الجنائية الدولية المنعقدة في روما 1998م فإنها تكشف عن محاولة لتجريم القوانين التي تعاقب على الشذوذ الجنسي، حيث أوردت الدول الغربية: "أن كل تفرقة أو عقاب على أساس الجندر يشمل جريمة ضد الإنسانية.
مما سبق يمكننا فهم الاختلاف حول تبني مفهوم الجندر، ولكن بغض النظر عن ذلك يمكننا التوصل إلى أن مصطلح "الجندر" لا يعد بديلا لمصطلح "الجنس" الذي يشير إلى الاختلافات البيولوجية بين الرجال والنساء، ويمكن استخدامه في التعدادات الإحصائية، أما " الجندر" فيستخدم في تحليل الأدوار والمسؤوليات والحاجات الخاصة بكلٌ من الرجال والنساء في كل مكان وفي أي سياق اجتماعي. وهنا يجدر بنا التطرق إلى موضوع (المساواة الجندرية) والتي تعنى: أن لا تعتمد الحقوق والمسئوليات والفرص المتاحة للنساء والرجال على كونهم ولدوا ذكوراً أم إناثا. بالإضافة إلى أن التوزيع المتساوي للمقدرات الاقتصادية يجب أن يفهم في إطار التوزيع المتساوي للفرص والقدرة على التأثير والقوة الاجتماعية، وهنا نصل إلى ارتباط الجندر والعمل:
الجندر في أماكن العمل شبكة في بناء المعرفة والقدرات، تركّز على الجندر(النوع الاجتماعي) والتغيير المؤسساتي. تأسست الشبكة في حزيران/ يونيو 2001، من قبل جمعية حقوق النساء والتنمية (AWID)، ومنظمة التضامن النسائي التعليمي من أجل الحقوق والتنمية والسلام (WLP)، والتحالف العالمي من أجل مشاركة المواطنين (CIVICUS)، وصندوق الأمم المتحدة لتنمية المرأة (UNIFEM). تقوم الشبكة بتحفيز مشاركة مهنيين في التنمية وحقوق الإنسان، وباحثين، وصناع القرار. تهدف شبكة الجندر في أماكن العمل إلى تطوير نظرية و ممارسة جديدة في سبل تمكن المنظمات من تغيير القواعد المؤسساتية المنحازة نوعيا (توزيع السلطة والامتيازات والحقوق)، والقيم (الأعراف والمواقف)، والممارسات. تهدف الشبكة إلى تغيير الأنظمة السياسية، ومنظومات المساءلة، والأنظمة الثقافية والمعرفية للمنظمات، كي تتحدى الأعراف الاجتماعية، واللامساواة النوعية.
لشبكة الجندر في أماكن العمل ثلاث أهداف رئيسية:
1. بناء المعرفة الإستراتيجية والتطبيقية لعمليات التغيير المفضية إلى التغيير المؤسساتي في السعي إلى المساواة النوعية (الجندرية).
2. تعزيز قدرة المنظمات على تحدي علاقات القوة النوعيّة (الجندرية).
3. بناء صوت جماعي مثقف لإعادة تشكيل التفكير والممارسة في تحقيق المساواة النوعيّة (الجندرية).
وقد تبنت كثير من المنظمات الدولية سياسة المساواة الجندرية وخاصة عند قيام دراسات وإحصائيات فيها كشفت عن انحسار عدد النساء في وظائف معينة وأغلبها المناصب القيادية، إضافة لقلة عدد الرجال في مواقع وظيفية أخرى من الضروري تواجدهم فيها.
في نهاية المطاف يجدر بنا القول بأن الجندر مفهوم يشمل النساء والرجال على حد سواء ويسعى إلى تمكين كلّ منهما وإلى التوزيع العادل للأدوار بينهما وعدم التطرف لأحدهما ووضع قالب جامد لهذه الأدوار التي قد تتغير حسب الظروف التي يعيشها الرجل والمرأة في المجتمع، فالجندر والمساواة الجندرية تبدأ مع تربية الصبي والبنت في طفولتهما على أنهما متساويان في الحقوق والواجبات، وأن لكل منهما أدوار يحدد قيامه بها إمكانيته وقدراته وليس جنسه، وأن لا تفوق للذكر على الفتاة لمجرد أنه ذكر، وأن مشاركته الأنثى حتى في الأعمال المنزلية لا يعني النيل من رجولته وكبريائه، ومشاركة الأنثى للذكر وسعيها لنيل حقوقها لا يعني المغالاة والتطرف في الحكم على الرجل بأنه مُستغِل وتجب مناهضته أو الخضوع له للعيش بسلام !
إن ظهور تغيرات في الأدوار التي يقوم بها الرجال والنساء على الصعيد الاجتماعي والمهني واختيار الرجال والنساء أعمال غير مألوفة في المجتمع، ظهور سائقات تكسي من النساء أو مربي أطفال من الرجال على سبيل المثال لا الحصر، شكل من أشكال الجندر الذي يلاقي معارضيه ومؤيديه، ولكن إذا عدنا بالزمن قليلاً إلى الوراء لوجدنا أن خروج المرأة للتعليم كان أحد المطالب الذي ُرفض بشدة بداية ومع مرور الوقت أصبح حقاً لا يُجادل فيه، ولا يوجد على الساحة من يُصرح بمناصرته للأمية عامة وعند النساء خاصة أو بقاء المرأة رهينة منزلها(خلا بعض الأصوليّات الدينيّة)، لذلك فإن استخدام آليات جديدة تسهم في رفع الوعي الاجتماعي تجاه المرأة ومن قبل المرأة والرجل على حد سواء فهما شريكان متكاملان، لم يعد يكفي الآن أن تكون المرأة متعلمة أو متقلدة مناصب قيادية بل عليها أن تكون صاحبة مشاركة حقيقية ومؤثرة في الحياة على جميع الأصعدة لتحقق دورها وتكاملها مع الرجل.