يحتج البعض أن "جرائم الشرف" لم تكن في تاريخ المنطقة، وانها فعل جديد على المجتمعات. ربما كان هذا صحيحا. لكن ما ليس صحيحا هو الاستنتاج الذي يبنى على ذلك، والذي يهدف إلى تأكيد أمر واحد: على المرأة التي هي خطئية بحد ذاتها أن تحجب نفسها بنفسها عن الحياة، حتى تكون "طاهرة"!
فالاستنتاج هو: على النساء أن تتوقف عن التواصل مع غير "بعلها" لكي توقف مسار الخطيئة كله، ومن ثم لكي لا يبقى من "عذر" لدى القاتل! بالأحرى: حتى لا تثار غريزة الغيرة فيه! أو يدعون أنه "الشرف"! إذا، فهي المخطئة! هذا يذكر بشعار حملة "السوار" المدهش في بساطته ودقته: "هو اللي لازم يخاف.. مش انت!". شعار لامس جوهر قضية العنف ضد المرأة المتمثل في أن المعتدي هو مخطئ دائما، وهو من يجب أن يخاف دائما. لأنه هو من يجب أن يتلقى العقاب على اعتدائه. فيما هو يصور أنه هو "محق"، وأن عليها هي أن تخاف لأنها هي من "أخطأت"!
بالطبع لا يهم هنا أن نناقش مفهوم "الخطأ". فهذا نقاش غوغائي إلى حد بعيد. كل منا (فرادى وجماعات) يرسم مجموعة الأخطاء التي تناسب مصالحه. وخاصة تناسب مصالح الأسياد فيه. الأمر لا يختلف حين يكون الأسياد هم "قبيلة الذكور". فالسلطة هي السلطة. أو "الملك هو الملك" على حد تعبير الراحل سعد الله ونوس.
لكن، هل كانت تلك المقدمة صحيحة فعلا؟! بالطبع لا.
فجريمة قتل النساء بذريعة "الشرف" ليست هي المشكلة الوحيدة. البشرية عرفت الجريمة دوما. وربما ستبقى تعرفها دوما. لكن ما هو جديد نسبيا في تاريخ البشرية هو وجود القانون. أي وجود سلطة عليا ليست تابعة لشخص ما، بل نابعة من العقد المجتمعي نفسه، وتقرر حدود كل شخص ضمن الجماعة. وأهم تلك "القرارات" هي أن القصاص هو سلطة حصرية للدولة. فبدون هذا الاحتكار المطلق، لا يعود للقانون وجود، ولا للعقد معنى.
والذكور يقتلون بدافع النساء بدافع الغيرة وغيره في أمكنة كثيرة من هذا العالم الذكوري. لكن ما يفرق بين منطقة وأخرى هو الإجابة على سؤال: وماذا بعد الجريمة؟ هنا تكمن "جريمة الشرف" حين يكون الجواب: وسام البطولة وإعفاء (أو تخفيف يصل حد الإعفاء) من العقاب! هذا يعني ببساطة: كسر احتكار سلطة الدولة للقصاص. فالقاتل يعتقد أنه قد "انتهك حقه"! وبالتالي فله "الحق" وفق القانون أن يقتص من "المتعدي".
حين يحصل القاتل على هذا الوسام الأسود، تتحول الجريمة من جريمة عادية، إلى "جريمة شرف".
فهذا الدم الطازج المسفوك هو القربان الذي يقدمه ذكر ما إلى قبيلة ذكور لكي يقول لهم: لقد غسلت عاري، اقبلوني مجددا بين صفوف قطيعكم! إنه قربان، ليس إلا. لذلك لا يعد القاتل المباشر في "جريمة الشرف" إلا أداة. بينما تكون هذه الجريمة في جميع الحالات تقريبا جريمة مخطط لها بدقة، ومرتب لتفاصيلها كاملة، بما يجعل كل من هو في خلفية الصورة قتلة بالضرورة.
لكن، ألا يعني هذا أن تغيير القانون وحده، ونزع الحصانة عن هؤلاء القتلة، لن يؤدي إلى إزالة هذه الجرائم؟
هذا صحيح. هو لن يؤدي إلى إزالة هذه الجرائم. لكنه ببساطة سوف يعيدها إلى "مستواها الطبيعي" كغيرها من الجرائم. والمعتدي، الذي هو القاتل وجميع مؤيديه ومحرضيه، سيتلقون العقاب مثل أي مجرم آخر. ففي النهاية المصالح هي محدد أساسي في سلوك البشر. وحين لا تكون نتيجة هذا القتل وسام البطولة، بل عشرون سنة من السجن، مع كل تكاليف ذلك على القاتل وعلى محيطه، سوف يعاد النظر ألف مرة قبل أن ترتكب هذه الجريمة القذرة.
من هنا، فقد حان الوقت لكي تتحول هذه الجريمة إلى جريمة مدانة عالميا. ولذلك أطلق مرصد نساء سورية دعوته العالمية لاعتماد يوم 29/10 من كل عام "يوما عالميا للتضامن مع ضحايا جرائم الشرف". و29/10/2009 هو اليوم الذي قرر فيه قاض سوري تبرئة قاتل لأخته بدعوى الشرف، في جريمة تم التخطيط لها على مدى أكثر من عام، وبدعم مطلق من المحيط الاجتماعي له. معلقا بذلك وسام البطولة على صدر القاتل، ومدينا الضحية مرة أخرى بعد أن أدانتها سكين القاتل التي طعنتها في صدرها وظهرها ورقبتها بينما قدمه تعلو رأسها، دون أن يرف له جفن، أو يهتز له "شرف"!
وهي دعوة يتم توجيهها إلى جميع المؤمنين بأنه حان الوقت لكي نوقف شلال الدم هذا. سواء كانوا أفرادا أو أحزابا ومنظمات وجمعيات. بهدف الوصول إلى تبنيها من قبل الأمم المتحدة تبنيا رسميا.
لكن، ما علاقة ذلك بعنوان هذه المقالة الصغيرة؟
في الواقع تم تشويه مقصود، عبر عصور الانحطاط خاصة، لمفهوم الرجولة الذي يفترض أن يدل على قيم إيجابية في العلاقة بين الرجال والنساء، من المساعدة والتعاون واللهفة والتشارك.. إلى قيم سلبية في هذه العلاقة تشكل السيطرة من قبل الرجل على المرأة بندها الوحيد.
والتمييز بين المفردتين (رجولة- ذكورة) تمييز ينبع من هنا. فيما الرجولة تنتمي إلى عالم البشر الذين تشكل أجسادهم جزءا من وجودهم، تقف الذكورة عارية مقتصرة على الجسد فقط بكل غرائزه وطبائعه البدائية التي يشكل العنف أحد أهم عناصرها.
وكما أن الرجولة هي رقي هذا الكائن من المستوى البدائي لوجوده إلى المستوى الحضاري، فالذكورة هي الاتجاه المعاكس: الانحطاط من المستوى الحضاري إلى المستوى البدائي.
في المستوى الحضاري يحضر العقل والتشارك والمساواة.. بينما لا يحضر في المستوى البدائي سوى العنف والغرائز بشكلها الأدنى.
ولنكن واقعيين: الميل الطبيعي للإنسان هو الذهاب إلى البدائية. حيث الكسل، السلطة، القوة، العنف.. مع كل "الجنات" الموعودة الناتجة عن "انتصار" هذا العنف... وبالتالي فإن المراهنة على تطور لا تتدخل فيه الإرادة بكل تجلياتها، خاصة القانون والقضاء والمؤسسات المختلفة..، هو رهان يبدو خاسرا. هذه ليست صورة سلبية للإنسان. فأن نقترب من معرفة أنفسنا كما هي هو بحد ذاته مفتاحا أساسيا للرقي بحياتنا..
إذا، سأعيد صياغة شعار حملة "السوار" بما يناسب هذا المقام: "هو اللي لازم يتعاقب.. مش انتِ!" فهو المعتدي. وهو من ينحط. لأن العنف بكافة أشكاله وأسبابه هو الانحطاط عاريا.
بسام القاضي، ("جرائم الشرف": الرجولة حين تنحط إلى الذكورة)