كان التاسع والعشرون من شهر تشرين الأول يوماً مظلماً يُضاف إلى أيامٍ أخرى جعلت خطّنا الزمني كمجتمع أشبه بسرداب حالك نكاد لا نتلمّس فيه طريقنا.. كان يوماً أثبت فيه القضاء للمرّة الألف أنه يعاني من روماتيزم مزمن في عدالته ومصداقيته كضامن للعدل والحق..
كان يوماً شاهدنا فيه بدهشةٍ واستنكار كيف أن محكمةً أخلت سبيل مرتكب جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصّد في حين تصدر محاكم من ذات المنظومة القضائية أحكاماً على التنفّس من هواء "ممنوع" أكبر بأضعاف من الحكم الهزيل بحق هذا القاتل, الحكم الذي لا نستطيع أن نرى فيه إلا تتويجاً لقاتلٍ مجرم.
يوم الخميس الماضي, التاسع والعشرون من تشرين الأول, حكمت محكمة على شقيق "زهرة" وقاتلها, الذي لاحق شقيقته من الحسكة إلى دمشق وخطط لقتلها بدمٍ باردٍ وأعصابٍ حديدية, حكمت عليه بالسجن ثلاث سنوات بتهمة القتل العمد بدافع الشرف (533 عقوبات, بدلالة 192 عقوبات) مع التخفيف لمدّة سنتين ونصف وإخلاء السبيل فوراً لاحتساب المدة منفذ من خلال فترة توقيفه.
بإلقاء نظرة على مواد قانون العقوبات المذكورة في نص الحكم نجد أن المادة 533 تقول:" من قتل إنساناً قصداً عوقب بالأشغال الشاقة من خمس عشر سنة إلى عشرين سنة", في حين تقول المادة 192:" إذا تبيّن للقاضي أن الدافع كان شريفاً قضى بالعقوبات التالية:
الاعتقال المؤبد أو الخمس عشر سنة بدلاً من الأشغال الشاقة المؤبدة.
الاعتقال المؤقت بدلاً من الأشغال الشاقة المؤقتة.
الاعتقال البسيط بدلاً من الحبس مع التشغيل.
أي أن القاضي لم يستخدم المادة 548 الخاصة بجرائم الشرف والتي تم تعديلها بمرسوم رئاسي هذا العام بعد جهد حقوقي واجتماعي كبير, ورغم أنها لم تكن على قدر التطلعات إلا أننا, ويالآمالنا العليلة, استبشرنا بها خيراً لأننا رأينا فيها نيّة لرفع الغطاء القضائي عن جرائم الشرف, وهذه المادة تذكر صراحةً أن الأسباب المخففة مستحقة فقط في حالة المفاجأة وأن يكون القتل أو الأذى غير عمد, وهذا ما لم يحصل في هذه الحالة فلم يكن هناك عنصر مفاجأة كما كان القتل عمداً وبساديّة تقشعر لها الأبدان, ولكن تم استخدام مواد أخرى لاستمرار التغطية القانونية على جرائم الشرف.
اعترف للقراء أن المادة 192 ترعبني بطريقة رهيبة, لسببين, الأول له علاقة بوجودها أساساً إذ لا أستطيع أن أفهم معنى "القتل بدافع الشرف" لأنني غير قادر على استيعاب وجود سبب شريف لقتل إنسان.. ربما هو القتل دفاعاً عن النفس أو عن الآخرين ضد عدوان, لكن هذا اسمه قتل دفاعاً عن النفس ولا أرى أن تسمية" الدافع الشريف" المطاطة المبهمة نافعة.
السبب الآخر هو الحرّية الكاملة للقاضي في رؤية "سبب شريف للقتل" حيث يشاء ويرغب, ففي هذه الحالة رأى أن القتل مع سبق الإصرار والترصّد والتدبير والتخطيط له سبب شريف, رأى أن سفر القاتل مسافة طويلة وشراءه آلة الجريمة والتخطيط لها وتدبيرها ( سرقة مفتاح المنزل ونسخه ثم الدخول بعد التربّص والتأكد من خلو المنزل إلا من أخته وذبحها وطعنها بهذه السادية الدموية) هو لدافع شريف, رأى سيادة القاضي أن افتخار القاتل بشنيع صنعه وعدم إبداء أي ندم عليه وتهليل الأهل وتصفيقهم هو لدافع شريف..
عن أي شرفٍ نتحدّث؟ ما هو مفهوم الشرف الذي يريدون؟
هل الشرف هو حرية الفاسدين والمفسدين وعيثهم في الأرض فساداً, نهاراً جهاراً, بلا رادع قضائي؟
هل الشرف هو الصمت لأن الكلمة جريمة يعاقب عليها القضاء؟
هل الشرف هو مجانية قتل الأخت أو ابنة العم أو الزوجة؟
هل الشرف هو استباحة المال العام من قبل الكثيرين دون رادعٍ إلا بعض الأحكام الهزيلة المتفرّقة؟
إن وجود ولو قاضٍ واحد ضمن السلك القضائي بهذا المفهوم عن الشرف هو مؤشر شديد الوضوح عن ما نعانيه في زماننا من انقلاب عنيف في موازين الثواب والعقاب, لم نعد نميّز بين ما يستحق المكافأة والاستحسان وبين ما يستحق العقاب والاستنكار.. وويلٌ لأمّة لا تملك عيناً ثاقبة تراقب هذه الموازين..
إن النظام العدلي بوضعه الحالي مسؤول أخلاقياً بدرجة كبيرة عن انتشار جرائم الشرف وقتل النساء بتقاعسه عن معاقبتها كجرائم قتل, هو مسؤول أخلاقي لأنه يعطي المبرر القانوني والتسهيل الجزائي لمرتكبي جرائم القتل هذه, فلو كان هناك عقوبة رادعة لكانت مسألة التوعية ومسح هذه العادات البالية والتقاليد الضارّة أسهل بكثير.. فالقانون هو الفيصل, ولا يمكن الإقناع بأن شيئاً ما هو خطأ عندما لا يعاقب عليه القانون بل يبرره.
لقد خطر لي في سطورٍ عديدة من هذه المقالة أن أنعت هذا الحكم النحيف بالمهزلة, لكن من الصعب بمكان أن نطلق لقب مهزلة على قضيّة حساسة مثل موت إنسان على يد أول المعنيين بالحفاظ على حياته.. الأهل, وتبرير هذا الموت وإسناده قانونياً من قبل أول المعنيين بمعاقبة المجرم ومكافحة الجريمة... العدل والقضاء.
ليس هذا الحكم طعنةً أخرى للمسكية زهرة فحسب, بل أنها طعنة جديدة لكلّ ضحية من ضحايا جرائم القتل باسم الشرف الكاذب, السابقات منهنّ واللاحقات لأن الحكم هو إعلانٌ جديد عن مجّانية القتل باسم الشرف..
اقتل يا رجل باسم شرفك فلن نعاقبك وستخرج سريعاً إلى أحضان من يصفّق لك شهامتك وكرامتك الرجولية..
لا تعمل يا هذا ولا تتعلّم, كن أزعراً وشريراً ومؤذياً.. هذا لا يمس شرفك بسوء
كن جاهلاً, كن غبياً, البس على رأسك "سطل زنك".. لا بأس.. لا علاقة لهذا بشرفك
اكذب, اسرق, عث في الأرض فساداً.. لا مشكلة, شرفك مصون!
لا مشكلة في أن تكون سافلاً ساقطاً فاجراً خبيثاً.. لا علاقة لهذا بشرفك فأنت رجلٌ وهذا لا يعيب الرجال..
كل ما سبق وغيره لا يمس شرفك وكرامتك.. فقط عليك أن تكون حازماً جباراً على "عرضك" وأن تحبسهن وتقف حارساً على الباب, أن تبرز غيرتك الرجولية بمناسبة وبدونها بكل فخر وغرور كالطاووس, وفي حال شاغبت إحداهن فاذبحها.. لا مشكلة.. كلّ ما سيأتيك هو بضعة أشهر في السجن تخرج بعدها بطلاً شريفاً.. السجن للرجال يا معلّم! وما أجمل الافتخار بأنك قد حافظت على شرفك بإراقة الدماء وسجنت باسم عزتك وكرامتك..
هل هذا هو مفهوم الشرف الذي يريدونه لمجتمعنا؟ شرف الشوارب وباب الحارة؟
رحمة الله على زهرة وغيرها من ضحايا جزّاري الشرف, والعدل لذكراهنّ.. وليتوقّف هذا الجنون السادي حالاً!!
مدونة أمواج إسبانية، (زهرة, مأساة القضاء واحتضار العدالة )