تغيرت سورية كليا خلال القرن العشرين من حيث علاقات الأفراد بعضهم ببعض. شمل ذلك الأسرة السورية التي تخلت كليا عن نمط "العائلة الكبيرة" حيث يعيش أفراد الأسرة في بيت واحد يضم عائلات كثيرة (عائلات الأبناء، وأحيانا الأعمام أيضا)، يخضع لسلطة واحدة عادة ما تكون سلطة الكبير في السن.
مشروع قانون الأسرة الوطني
وانتقلت العلاقات الاقتصادية من طابعها الزراعي الإقطاعي إلى طابع العمل المأجور خارج المنزل. مترافقا ذلك مع توسع أفقي شديد (خاصة اعتبارا من ثمانينيات القرن العشرين) في: التعليم، الكهرباء، شبكة الطرق، الصحة..
وترافق ذلك مع تغيرات جذرية في بنية الأسرة السورية التي بدأت، منذ عقود، في بناء خلية جديدة قائمة على تشارك فعلي بين طرفيها الأساسيين (الزوج والزوجة)، حيث يتحكمان بحياتهما إلى حد بعيد، ويشاركان، كلاهما، بأشكال مختلفة ومستويات مختلفة في بناء وقيادة الأسرة.
ومع تطور نظام الدولة من الأشكال المختلفة القديمة إلى شكل الدولة الحديث القائم أساسا على وجود دولة جغرافية-سياسية واحدة، تعتمد معاييرا واحدة لكل من ينتمي إليها انتماء بيروقراطيا (في السجلات)، وتطبق قوانين واحدة تسري على الجميع، وتكون الدولة هي الجهة الوحيدة المخولة تنظيم العلاقات داخل المجتمع لجهة وضع الحقوق والواجبات، وحل الخلافات، وإيقاع العقوبات على مخالفي القانون...
أنتج ذلك علاقات ومفاهيم جديدة استبدلت المفهوم القديم "الشخص"، والذي بني على اعتبارات ما قبل الدولة بمواصفاتها الأساسية تلك، بـ"المواطن" والتي تعني الشخص الذي ينتمي إلى هذه الدولة ويخضع لقوانينها.
وبهذا الاختلاف، لم تعد العلاقات بين "الأشخاص" هي علاقات "شخصية" حين يترتب عليها أي نوع من النتائج المجتمعية (شركة، زراعة، أسرة...)، بل هي علاقات مبنية على أساس "المواطنة" ووجود الدولة.
الأمر الذي أخرج "الأسرة" من دائرة الفعل الشخصي إلى دائرة الفعل العام. فبينما كانت الأسرة هي نتاج علاقة شخصية بين فردين (رجل وامرأة)، وكل نتائج وجود هذه الأسرة والعلاقات بينها تنعكس حصريا (تقريبا) على الأشخاص المعنيين، صارت الأسرة هي نتائج علاقة شخصية بين فردين (رجل وامرأة)، إلا أن نتائج وجودها تنعكس على المجتمع ككل، ضمنا الدولة.
وهذا ما نتكلم عنه دائما في الدراسات والإعلام، دون أن نسميه. فالمواليد الجدد كانوا يعنون قوة عمل خاصة بالأسرة، فيما باتوا يعنون الآن: الصحة والتعليم والانتقال والسكن والعمل وشراء الاحتياجات المختلفة....
من هنا، فإن الاحتفاظ بالتسمية القديمة للقانون "قانون الأحوال الشخصية"، باتت نافلة. فما نحن فيه الآن هو "أسرة" وطنية بكل معنى الكلمة. ولا بد من إعلاء التأكيد على هذه الحقيقة البسيطة. وتأكيد أن الأسرة هي المعنية بهذا القانون، وليس "أشخاصها".
وبما أن السوريين والسوريات يعيشون في وطن واحد، وليس في "أوطان" قائمة على أساس الدين أو المذهب أو العرق أو القومية.. فإنه لا يمكن الاستمرار بالإبقاء على قوانين تخص كل فئة على حدة. إذ لا يوجد مثل هذا التعدد في القوانين (خاصة في أمر أساسي في وجود الوطن نفسه هو الأسرة) في أي من بلدان العالم التي تعتمد الوطن والمواطنية. وبالتالي فإن هذا القانون يجب أن يكون شاملا لجميع الأسر السورية دون أي استثناء أو تمييز بين انتماءات أفرادها الدينية أو القومية أو العرقية. (وهو ما سنأتي عليه لاحقا باقتراحات منفصلة).
فإذا، لا بد أولا من إلغاء التسمية القديمة واعتماد الإسم الجديد: "قانون الأسرة الوطني".
فصل قانون الطفل:
لم يعد الطفل هو مجرد "نتيجة" للزواج. بل هو الآن محور العملية التنموية كلها، وهدف جل السياسات التي تستهدف المستقبل. وينعكس وضع الطفل اليوم مباشرة على مجتمع اليوم والغد. مما يجعل كل ما يخص الطفل "شأنا عاما" وليس شأنا خاصا بأبيه وأمه (وأحيانا بعمه أو جده!).
وبعد التطورات الجذرية في مفهوم الطفل، وفي مفاهيم التربية والحقوق، وبعد توقيع سورية على اتفاقية حقوق الطفل، لم يعد من المناسب الاستمرار باعتبار الطفل (وحقوقه) جزءا من "الأحوال الشخصية". بل لا بد من فصل كل ما يتعلق بالطفل إلى قانون خاص يتناول جميع الجوانب المتعلقة به، سواء من حيث حقوق كل من الوالدين وواجباتهما، أو من حيث حقوق الطفل نفسه داخل الأسرة وخارجها، في حال استمرار العلاقة الأسرية أو تفككها لأي سبب (الطلاق، الموت). وهذا ما يسمح بإخراج الطفل من اللعبة المميتة لعلاقات القربى حين يتنازعون على الطفل، كما يخرجه من اللعبة المميتة أيضا في مواضع الإرث وغيرها حين فقدان أحد الوالدين.
ومع وجود مشروع قانون رائد حول حقوق الطفل، كانت قد أعدته الهيئة السورية لشؤون الأسرة قبل عامين (2009)، يمكن القول أن الخطوة الأساس في إيقاف التخلف المزمن في مفاهيمنا نحو الطفل، وبالتالي في ممارساتنا، يبدأ من فصل كل ما يتعلق به عن "الأحوال الشخصية"، ووضعه في قانون خاص مستقل يحمل اسم "قانون الطفل السوري".
فصل الإرث والوصية:
الأمر نفسه فيما يخص الإرث الإرث. إذ تحتل المواد المتعلقة بالإرث والوصية في قانون الأحوال الشخصية اليوم ثلثه (من المادة 207 حتى المادة 304)، وهو ما يعني أن المفهوم القديم للأسرة يرتبط ارتباطا وثيقا بالمعاملات التجارية المتعلقة بالإرث. وبغض النظر عن تسميات دينية مختلفة تسبغ على هذا الأمر، إلا أنه عملية "حسابية" بامتياز. لا علاقة حقيقية لها بأسرة ولا بعلاقة زوجية ولا بطفل. بل هي تنظيم مالي صريح. ولا مبرر لإبقائها في قانون يهدف إلى تنظيم علاقة الأسرة والرفع من مستواها، ويشكل أحد أساسيات النزاعات الدينية والطائفية في سورية. ويشكل أرضا خصبة للتمييز بين هذه الطوائف والأديان، كما يشكل أرضا حقيقية للتمييز ضد النساء. وتخليص "قانون الأسرة السوري" من هذه التشابكات الاقتصادية، عبر فصل موضوع الإرث والوصية إلى قانون خاص، ينزه الأسرة عن هذه التشابكات التي لا يفهمها جيدا حتى العديد من المحامين/ات، كما يساهم في حلحلة النزاعات الدينية والطائفية عبر وضعها في مكان محدد وواضح بعيد عن الأسرة السورية التي لا يكون وطن بتمزقها بين الأديان والطوائف.
من هنا فإننا ندعو إلى فصل هذين الموضوعين عن "قانون الأسرة السوري" إلى قانون خاص بالإرث والوصية، ويسمى "قانون الإرث والوصية السوري".
*- سوف ننشر تباعا مقترحات ملموسة في كافة أوجه القانون المقترح..
نساء سورية، (اقتراحات من أجل قانون أسرة وطني سوري (1): إسم القانون، وفصل الطفل والإرث والوصية)