الحكاية طويلة ليست انحيازية للمرأة بغير مبررات ولا تشفعية دون موجبات إنما هي واقعية مستقاة من حقائق ثابتة ودلائل حاضرة تحيط بالإنسان أنى ذهب وحيث رحل دون نكران أو جحود نظرا لأهمية كل ما يتعلق بالمرأة من أداءات بل دون تجاهل أيضاً أو استهتار بكفاءاتها أو تصغير لمساراتها وتهميش متعمد منبوذ لعطاءاتها وتقزيم لدورها الهام في كل التحديات التي خاضتها المرأة وما تزال...
تلك المرأة الكثيفة الحضور من حيث تباين وجهات النظر حولها رغم أنها شريكة الرجل في سكنى المعمورة ورفيقته في إنتاج نمطيات الحياة وتكوين خلايا الوجود... أجل تلك المرأة التي أطعمت ذاك الشريك التفاحة وكانت سبب سعادته وشقائه.. سبب جده واجتهاده أو العكس كما يقال من قبل محاربي المرأة بأنها هي سبب إحباطه وانهياره وسبب ضياعه وإعيائه وانفصامه وكل ما ينسب إلى المرأة من إشكالات كانت إسقاطاتها كثيفة على ساحات الرجال ورأى فيها البعض أنها هي المسؤولة عن صناعتها وإيقاع الرجل في مطباتها وما إلى ذلك من مقولات سوداء تلحق بالمرأة منذ أيام الجدة الأولى "حواء" وإلى هذا اليوم...
هذه المرأة لابد أن مسيرة تطورها كانت كثيفة النقلات متعددة الاتجاهات تختلف من مجتمع لآخر ومن حقبة تاريخية لأخرى وهنا سأحاول الركون في بعض تلك المحطات التي توضح ذاك الحال عسى ولعل نتفهم قليلا طبيعة المرأة وهل اختلفت مكوناتها الفكرية والمعيشية والعطائية بين الريف والمدينة وبين التخلف والتطور وهل تباينت النظرة إلى شخصها ووجودها وعواطفها وحقوقها من رجل إلى آخر ومن أنصار تحرر المرأة إلى من ينادي بأن تبقى المرأة مجرد تابعة وقابعة في كهوف الرجل كي تقدم له آيات السمع والطاعة وتربي الأولاد وتكنس وتطبخ وما إلى ذلك من مهمات ليست بالقليلة ولا تدين المرأة أبدا لأنها بالنهاية عنوان عطاء المرأة في كل الأحوال من حيث أن واجبها الأول هو حماية أسرتها ورفع كيان ومستوى عائلتها ببذل جهودها المكثفة وإغراق محيطها بهبات مقدسة جليلة زودها بها الإله ووضع لذلك الجنات تحت أقدامها الكليلة من وقوف طويل لإعداد الطعام وإرضاء الطفل الصغير قبل الكبير والسهر في عراء البرد لتؤمن لحظات الدفء لأحبائها والاعتناء بالمرضى منهم ومساندة الضعيف بينهم وهكذا...
فماذا قال التاريخ في المرأة:
مما لاشك فيه أن المرأة بكل المعايير كانت محور اهتمام الباحثين والكتّاب وأهل القلم والإعلام في متابعة منهم لهذا الكائن الهام في رسم صور الحياة وبناء المجتمعات وعليه فقد حدثنا (جرجي زيدان) في مؤلفه (الأعمال الكاملة) عن أهمية المرأة وجاء بمقولات تتحدث عن المرأة العربية وفق التطور التاريخي كما تتحدث عن المرأة الانكليزية والفرق بينها وبين المرأة العربية وكذلك الحال بالنسبة الفرنسية... فماذا قال؟ إن أهم ما ذكره جرجي زيدان في المرأة كان مرتبطا بمدى تأثيرها على الرجل حيث قال: "إن الرجل بالمجمل هو ابن امرأة وزوج امرأة وأخ امرأة... أطاعها في طفولته إن كان ابنا وأحبها في شبابه وأغرم بها إن كان زوجا وأكرمها في كهولتها إن كانت أما"...
ومن هنا كما يرى جرجي زيدان فان الرجل يتعب لأجلها ويكد في التماس العلم أو التجارة ويتصرف طوعا وجهارا لما أوحت له به سرا لا فرق في ذلك بين تاجر أو قاض أو كاتب أو محام وغيرهم مستشهدا على ذلك بمقولة للفرنسيين في تفسير حادث، ما، تقول "فتش عن المرأة" أو "cherchez la fame" في حين قال آخرون: "إن المرأة التي تهز المهد بيمينها تهز العالم بيسارها" وفي المقولتين إشارة واضحة إلى قوة المرأة حتى في حنانها وآثار تربيتها على المجتمع فيما تغنى الشعراء العرب بدورها الايجابي في إعداد الأجيال مثل: الأم مدرسة إذا أعددتها/أعددت شعبا طيب الأعراق ويتابع زيدان في تأكيده على دور المرأة فيقول: "إن سبب تخلف المجتمعات يعود إلى اقتصار تعليمهم على الذكور دون الإناث وعليه".. فلا تفلح أمة أمهاتها جاهلات لا تعرف الواحدة منهن إلا غرفتها ومنزل أهلها "..
ومن هنا همشت المرأة في المجتمعات الجاهلة التي تدفع الرجل إلى انتقاء زوجته بواسطة أمه أو عمته أو إحدى قريباته... فلا يتزوج امرأة إلا إن قالت أمه عنها "لها فم يأكل وليس لها فم يتكلم" وفي هذا تأكيد على هلامية كيان المرأة..
وهكذا يرى المتتبع للتاريخ الإنساني أن الأمم ترتقي برقي نسائها إلى جانب رجالها والعكس صحيح... وفي نظرة إلى تاريخ المرأة العربية يرى المؤلف وغيره من البحاثة أن الإسلام ساهم في إحياء دور المرأة وإنعاشه من خلال حرصه على حقوقها وصيانة كرامتها حيث ظهرت في صدر الإسلام نساء لهن شأن واحترام مثل خديجة بنت خويلد زوج النبي الكريم وأسماء بنت أبي بكر "ذات النطاقين" وعائشة أم المؤمنين وسكينة بنت الحسين ناهيك عن الشاعرة الخنساء وخولة بنت الأزور...
وهنا قد يسأل واحدنا: إذا استطاعت المرأة أن تنال الحظوة والاعتبار وتعتلى إلى سدة المكانة والاهتمام فكيف هبطت بعدها ثانية إلى أقبية التخلف والجهل وعاشت عصور القمع والإذلال؟؟ والإجابة جاءت عند جرجي زيدان كالتالي "إن عصور الترف التي شهدها العرب ساهمت في ظهور ظاهرة التسري وذهاب الغيرة من قلب الرجال ما أسقط ثقة المرأة فيهم ولم تقف الأمور عند هذا الحد بل دفعت فوضى المفاهيم والمعايير حينها إلى أن تهدي المرأة إلى زوجها الجواري بما انعكس سلبا على المرأة حيث طفت غيرة الرجل على سطح تصرفاته من جديد وعاد إلى منع المرأة من الخروج وراح يقفل عليها الأبواب ويغلق على فمها طريق الكلام في وقت ذهب الشعراء إلى نظم شعر يحذر من الثقة بالنساء بما أسهم في إعادة المرأة إلى أقبية الجهل وأن تبقى حبيسة الدار دون اعتبار واحترام وهنا يأتي المؤلف بأمثلة على تردي أوضاع المرأة كالتالي (.. إذ أصبحت المرأة تتلعثم إن خاطبها رجل وإن رأت حلما راحت إلى تفسيره خائفة وإن سمعت صوت الرعد حسبته دبيب العفاريت وإن قيل أن القمر قد خسف لجأت إلى طرق الأواني النحاسية لاعتبارات خاطئة..) وما إلى ذلك من مفرزات العتمات التي حكم على المرأة أن تعيش تحت خيامها انطلاقا من القول المشهور "إن الرؤوس الفارغة هي مغارات الشيطان"...
وهكذا استمر الحال إلى أن جاءت مرحلة التعليم بدءا من مشارف العصور الحديثة لتأخذ الذكور إلى المدارس دون الإناث ليبقى الجهل مهيمنا على مجتمع الأسرة مادامت الأم التي تشرف بشكل مباشر على تربية الأبناء وتعليمهم مازالت جاهلة ومن هنا ارتفعت الأصوات تنادي بضرورة تعليم المرأة وتقدمت بعض النساء بإصرار جبار إلى منارات العلم فتعلمن ومن ثم رحن يدعين إلى تعليم البنات لتنطلق المرأة من عقال التخلف إلى فسحات الوعي بما أسهم بعض الشيء في إزاحة كابوس الجهل عن دروب الأجيال المعاصرة....
ماذا قال التاريخ في المرأة الانكليزية على سبيل المثال؟
بداية وبشكل موجز لا بد من القول إن المرأة الانكليزية تشبه في أمور عدة باقي نساء أوروبا إلا أن الانكليزية أكثر تمسكا بالبساطة وأكثر اهتماما بالرياضة وخاصة (ركوب الخيل) وهذه الاهتمامات من متممات العناية بثقافتها وتعليمها وكانت المرأة الانكليزية من أوائل نساء العالم اللواتي طالبن في حق التصويت والانتخاب ومن ثم في الانضمام إلى المجالس البرلمانية يجاريها في ذلك المرأة الفرنسية ولقد حازت الانكليزية والأوروبية عموما على الفائض من الحرية لكنها كانت في حال زواجها شديدة الحرص على أسرتها ورعايتها والإخلاص إلى زوجها بما يسهم في تقدم مجتمعها وتطورها...
هذا القول لا يعني ضرورة التشبه بتك المرأة لأن لكل مجتمع توليفته الخاصة ورموزه المعينة وقيمه الغالية ولا يصح أن نجعل المرأة العربية صورة عن المرأة الأوروبية إلا من حيث ضرورة تعلمها والاهتمام بكل الملامح العلمية والثقافية التي تخدم بها أسرتها فكم من امرأة جاهلة بأبسط قواعد الأمور الصحية والطبية ساهمت في إضاعة أولادها من يدها وتدهور صحتهم، وكم من جاهلة في معرفة حقوقها الاجتماعية راحت إلى التشرد والطلاق التعسفي وتفكيك أسرتها الواحدة وكم من امرأة غير متعلمة ما استطاعت أن تتفهم طبيعة المراهقة عند أولادها فراحوا إلى الانفلاش من شرب المخدرات والانضمام إلى العصابات وممارسة أسوأ التصرفات وهكذا...
في النهاية أقول: إننا اليوم أشد حاجة إلى تعليم المرأة السورية ورفع مستوى وعيها وقد شهدنا العجب مؤخرا من أمور جسام أصابت كبد المجتمع السوري كانت تنمو وسط بيئات داكنة المعرفة لا نور علم يدخل من النافذة إلى العديد من الأسر البسيطة فيها ولا مقولة حق تخترق متاريس الجهل من خلال نشاطات ثقافية وتوجيهات إعلامية حتى الدراما السورية التي أحبها السوريون راحت إلى استعراض حالات أسرية يأكلها الجهل والمرض والفقر والمخدرات دون أن تعرج ولو قليلا إلى حلول، ما لها... إضافة إلى وزارات الإعلام والثقافة التي كانت بالمجمل بمنأى عن الحض على نشر الوعي العام مقتصرة على بعض الحوارات القصيرة المباشرة بشكل جاف وغير ممنهج ولا ذيول عملية له تروح إلى الالتئام التام مع أسر جافاها القدر وما عرف العلم طريقا لها.. وأقصى ما أشاهده حتى الآن في بعض البرامج الصباحية التلفزيونية هو كيفية صناعة ورود اصطناعية على سبيل المثال وإعداد وجبات غربية ليبقى من أهم الضرورات التشجيع على القراءة وافتتاح دورات مجانية تعليمية وتدريبية جادة ذات طابع علمي ورياضي وقانوني واجتماعي وديني تشد إليها نساء ضاعت منهن فرص التعلم والمتابعة فأبكتهن الحياة الظالمة...
عفاف يحيى الشب، (المرأة على سطور الحياة...دور المرأة أماً وأديبةً ورائدةً الى جانب الرجل )
عن جريدة "الوطن" السورية، 2013/11/13