افتتاحية المرصد

لوقت طويل حلمت النساء السوريات، والرجال المعتقدون بأن المساواة هي الطريق إلى أنسانيتهم وإنسانية علاقاتهم المجتمعية، أن يتغير الدستور السوري فينفي كل تمييز منه ضد النساء (وأي تمييز آخر). إلا أن المشروع الذي سيستفتى عليه بعد أيام (الأحد، 26/2/2012)، لم يسقط هذه الأحلام فحسب، بل وجه طعنة في الصدر للمواطنة عامة، وللنساء خاصة، دافعا إياهن، قسرا، إلى أن يعدن إلى عباءات "الحريم"، لا فرق في ذلك ما اسم الدين الذي يدّعي رجل ما أنه ممثل إلهه على الأرض!

 

لا لدستور طائفي تمييزيتقول المادة الثالثة "الجديدة" من المشروع:
1- دين رئيس الجمهورية الإسلام.
2- الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع.
3- تحترم الدولة جميع الأديان، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن لا يخل ذلك بالنظام العام.
4- الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية.


لنبدأ بنقاش هذه المادة بندا بندا.
1- لا يكتفي البند الأول بطرد المواطنين/ات السوريين/ات غير المسلمين من حق أساسي من حقوق المواطنة، أي حق تبوأ أي منصب (أي منصب) في الدولة دون قيد أو شرط (سوى القيود المعروفة المرتبطة بالكفاءة، كالشهادة العلمية مثلا، والعمر مثلا..)، بل إنه يحرم أي امرأة سورية من أن تترشح لمنصب رئيس الجمهورية!
وفيما يحاول البعض تضليل الناس حول هذه الحقيقة، يكشف مشروع الدستور نفسه عن ذلك التضليل. إذ تقول المادة الرابعة والثمانون، التي تتضمن شروط الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، في بندها الرابع، ما نصه حرفيا: "أن لا يكون متزوجاً من غير سورية".! فهل تم تشريع حق المثليين والمثليات بالزواج في سورية؟ إذا لم يكن قد تم تشريع ذلك، فكيف يمكن أن يفسر هذا البند الذي ينص على أن لا "يكون"، أي هو، أي الذكر، متزوجا من "سورية"، أي هي، أي امرأة؟ إلا بتفسير واحد لا ثاني له هو أن شرط الذكورة لازم للترشح لمنصب رئيس الجمهورية؟
هذه هي الحقيقة البسيطة والعارية والتي لم تتمكن كل المداورات في مشروع الدستور من إخفائها. حقيقة أن النساء السوريات، وبغض النظر عن دينهن وعرقهن وكفاءاتهن.. ممنوع عليهن أن يترشحن لمنصب رئيس الجمهورية!


2- كثيرا ما قارع البعض حول هذا البند متحججين بـ"أغلبية الشعب السوري" المسلمة! فيم هم يتحدثون، بالضبط، عن الديمقراطية والمواطنة!
وبما أنه لا ديمقراطية بلا مواطنة، وهذا ما لا يناقش به عاقل! والمواطنة، بعيدا عن كل السفسطات والفذلكات الكلامية، ليست سوى "المساواة في الحقوق والواجبات دون أي تمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو الاعتقاد أو القومية"، فإن أي انتهاك لتلك "المساواة" هو انتهاك جلي للمواطنة.
وجعل أي "فقه" ديني مصدرا رئيسيا للتشريع يعني، بالضبط، تمييزا صارخا وواضحا ضد كل من ليس من أتباع هذا "الدين". إلا أن التمييز الأكبر هو، بالضبط، ضد النساء. لماذا؟
لأن أهم الاختلافات، بل التناقضات بالمعنى المجتمعي للدين، بين الأديان، هي فيما يتعلق بالنساء وكيفية "إدارة الذكور" لهن وسيطرتهم عليهن!
والفقه الإسلامي، ككل فقه ديني آخر، لا يعترف بالمساواة بين الرجال والنساء مهما حاول بعض رجال الدين "تطوير" هذا الواقع. عدا عن أن "الفقه" الديني يتضمن، حكما، تباينات وآراء واجتهادات وفتاوى تبدأ من طرف وتصل حتى الطرف الآخر من أية قضية، مع إشتراك الطرفين بعدم تأييد المساواة في الحقوق والواجبات بين النساء والرجال، خاصة فيما يتعلق بالحياة الأسرية!
مرة أخرى، إذا، البند الثاني يشكل انتهاكا صريحا لحقوق النساء السوريات بصفتهن مواطنات.


3- بما أن "الشعائر" هي مفهوم مطاط لا يمكن تحديده، إذ يخضع أولا لرؤية "الطائفة" المعنية، فإن لا شيء يمنع أن يكون "ختان الإناث" مثلا مرعيا وفقها! ولا يعني شيئا القول "على أن لا يخل ذلك بالنظام العام"، فهو لا يخل بالنظام العام القائم أصلا على التمييز ضد النساء!
وكذلك، لا شيء يمنع من تشريع فرض النقاب والحجاب، أو خلعهما قسرا، بما أنهما، كلاهما، يدخلان أيضا في بند "الشعائر"!
وهناك الكثير مما يقال في هذا البند، في إطار تشريع التخلف والانحطاط، تحت مسمى "الشعائر"، مما ينعكس على المجتمع برمته، إلا أن هذا ليس موضوعنا الآن.


4- وهنا، وبلا حياء ولا خجل، تنتكس الدولة السورية بقفزة هائلة إلى الخلف، تحت مسمى "الحريات الدينية"، بدفعها المجتمع ككل، والنساء خاصة، ليكونوا تحت رحمة رجال الدين وتصوراتهم المريضة عن العلاقة بين الرجل والمرأة، وعلاقتهما بأطفالهما، بإلغاء الحلم بقانون أسرة وطني لا يميز بين رجل وامرأة، ويكون منسجما فعلا مع مفهوم "المواطنة"، الذي تحول على أيدي هذا المشروع إلى لعبة سياسية لم ينجح لاعبوها في إخفاء حقيقتها.

فقانون الأحوال الشخصية، أيا كان اسمه، هو القانون الذي يتحكم بحياة كل فرد فينا من ما قبل ولادته (وهو في بطن امه)، وحتى ما بعد وفاته (الإرث).
وهو القانون الذي يحدد العلاقة بين المرأة والرجل في علاقة الزواج. واضعا القواعد التي تجعل الزواج قانونيا، والحقوق والواجبات على أطراف الزواج، والعلاقات المالية والعلاقة مع الأطفال، والحقوق والواجبات أثناء الطلاق وبعده.
أي، باختصار، القانون الأساسي والأهم الذي يحدد طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة.
والمرأة، بل السيطرة على المرأة، كما بات معروفا، هي القضية الأساس التي تهم رجال الدين من جميع الأديان والطوائف. ولن ندخل هنا في برهان ذلك، لأنه أوضح وأكثر انتشارا وبساطة من أن نحتاج برهانا له.
وبما أن الأديان جميعا، والطوائف جميعها، لا تعترف بالحقوق والواجبات المتساوية بين الرجال والنساء سواء في عقد الزواج، أو أثناءه، أو في حل الزواج (الطلاق) وبعده، كما لا تعترف بالحقوق والواجبات المتساوية في العلاقة مع الطفل، أو في الميراث، فإن تكريس رجال الدين بصفتهم السلطة العليا على حياة الأسرة، يعني بالضبط تكريسهم السادة المطلقين على حياة النساء!
وردا على كل من يقول بأن هذا غير صحيح، نقول: إذا، لماذا لا يكون قانون أسرة وطني لا تمييز فيه بين النساء والرجال، بدلا من قوانين عدة يدعي أسيادها أنه لا تمييز فيها؟ لو لم يكن فيها تمييز وعنف وانتهاك لحقوق النساء كمواطنات، فلماذا نشرع قوانين مختلفة؟
وهنا لا بد من القول أن تشريع قوانين مختلفة لقضية واحدة هو أصلا تكريس لـ"دويلات الطوائف". فلا يوجد بلد في العالم يعترف بالمواطنة معيارا وحيدا له يشرع أكثر من قانون واحد في قضية واحدة. وبعض من يستشهد زورا ببعض الدول الأوربية حول "الزواج الاختياري" بين أكثر من قانون، هو جاهل أو كاذب. لأنه لا يوجد بلد أوروبي يتضمن أكثر من قانون واحد للزواج.

هذا عدا أن قوانين أحوال شخصية طائفية تعني، بالضرورة، تمزيقا لما يسمى "الوحدة الوطنية" أكثر مما هي ممزقة أصلا! فلا توجد طائفة دينية واحدة تقبل تشريع حق المرأة التي ولدت لأب من طائفتها أن تتزوج بمن تشاء بغض النظر عن دينه وطائفته! بل إن بعضها "يجرم" هذا الاختيار، مثل قانون الأحوال الشخصية المسلم الذي يعتبر "زواج المسلمة من غير المسلم باطل"! حتى لو كان مسيحيا أو يهوديا (أي من الأديان التي يعترف الإسلام بأنها أديان سماوية)!
بل إن طائفة كاملة هي طائفة الدروز (أو الموحدين الدروز) تعتبر في الفقه القضائي السوري، وفي الواقع القضائي طائفة "مشركة"، فحتى الرجل المولود لأب مسلم لا يمكنه الزواج من امرأة مولودة لأب درزي دون أن "تشهر إسلامها" كأي "مشركة"! لأن زواج المسلم من غير المسلمة أو المسيحية أو اليهودية، باطل أيضا! وبالطبع، لا يمكن لأي رجل مولود لأب درزي أن يتزوج امرأة مولودة لأب مسلم دون أن يشهر إسلامه!


هذه هي حقيقة المادة الثالثة من مشروع الدستور. حقيقة أنها تمزق سورية برمتها إلى كانتونات طائفية لا تقوم إلا على جثة المواطنة. وحقيقة أن النساء السوريات، أيا كان دين آبائهن، هن عبدات لتصورات الرجال الذكور حسب هذا المشروع!
ثم يخرج علينا من لا يتقن حتى الألاعيب، فيصرخ ويدبج في مديح الانحطاط الطائفي والعنف والتمييز المشرع في المشروع بصفته "أفضل دستور يحترم الديمقراطية والمواطنة"، معتقدا أن الناس ليسوا إلا ثلة من الحمقى سوف يصفقون له دون أن يكشفوا الجريمة التي يرتكبها مشروع الدستور هذا بحق سورية المواطنة أولا، وبحق كل امرأة سورية ثانيا.


لهذا السبب، ولأسباب كثيرة أخرى ليس هذا المقال موضوعها، يعلن مرصد نساء سورية رفضه لهذا الدستور الطائفي الذي ينتهك حقوق المواطنة للنساء السوريات ويشرع استعبادهن، ويدعو كل من يؤمن/تؤمن بالمواطنة خيارا وحيدا لسورية الوطن المدني الديمقراطي من أجلنا ومن أجل أطفالنا وطفلاتنا..
ويدعو كل سوري وسورية إلى المشاركة الفاعلة في التصويت على الدستور بوضع إشارة "لا"، حتى لا يكون شريكا/ة في تشريع المزيد من اضطهاد النساء السوريات وتقديمهن "هدية" على مذبح التنازعات السياسية.

إن التصويت بـ"لا" على مشروع الدستور الطائفي التمييزي هذا، يجب أن يجبر النظام السوري على أن يعيد التفكير بهذا المشروع، بحيث تكون المواطنة الحقيقية، أي المساواة غير المنقوصة بأي شكل وأية تعابير، المساواة في الحقوق والواجبات المنصوص عليها في البند الثالث من المادة الثالثة والثلاثين: "المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة"، هي وحدها السيدة في دستور لسورية مدنية ديمقراطية تحترم جميع أبنائها وبناتها على قدم المساواة. وتكرس قاعدة صحيحة ومناسبة للبدء بالتحول نحو المواطنة بديلا لكل التمزق الطائفي والديني الذي تبينت حقيقيته خلال الأزمة التي تعيشها سورية اليوم.


نعم للمواطنة، لا لانتهاك حقوق النساء، لا لمشروع الدستور الطائفي التمييزي.

 


افتتاحية مرصد نساء سورية، بسام القاضي، 2012/2/21، (نعم للمواطنة، لا لانتهاك حقوق النساء، لا لمشروع الدستور الطائفي التمييزي)

خاص، مرصد نساء سورية


0
0
0
s2smodern